مذكرات مرآتي
الورقة الواحد والثلاثون
☆ هدية وجهاء زرهون
"عروس" !!!
☆ القيام بعد السقوط
☆ الصدمات الثلاث وفرنسا
☆ الأبوة فن أتقنه أبي بامتياز
☆ ألقى الله حب الناس عليه
☆ كان أيوبيا اتجاه عنادي وشغبي
☆ إنه أبي ولو لم يكن أبي لتمنيت
أن يكون كذلك
●
●
●
●
يحملك لون عينيه إلى زرقة البحر روعة جمال أناقته غير قابل للوصف بالكلمات ، ينطبق عليه القول الاسلامي: ( إلتمسوا الخير عند حسان الوجوه) هذا الرجل الشهم الجليل القدر الاستثنائي الذكاء مولاي الحسن بن عدو الإدريسي لو لم يكن أبي لتمنيت أن يكون أبي ، لما فيه من هيبة الوقار ومرونة الطباع ، المرحوم أبي كان يتقن فن الأبوة بكل ماتحمله كلمة المسؤولية من معنى تتجلى في الحرص على استقامة أبنائه وبناته على السواء ، إلا أنني كنت أشعر بتركيزه على العناية بتنشئتي أنا بالذات باعتباري أول مولودة أنثى بعد الذكور ( كل بنت بأبيها معجبة) ملاحظة لا
تفارقني منذ طفولتي المبكرة هي أن جميع صفات الأب الصالح تجسدت في والدي الذي حاولت دون إرادتي تقليده في كل حركاته وسكناته إيمانا مني بأنه المثل الأعلى في الأسرة والعائلة والمحيط الاجتماعي (بأبيه اقتدى عدي في الكرم ومن يشابه أباه فما ظلم ) كان أبي "آدبا " والآدب هو من يدعو الناس لمأدبة الطعام ، وفي وقت الدرس الذي يحدثني فيه كعالم يردد قولة بن مسعود رضي الله عنه" القرآن مأدبة الله " كنت مهتمة بأسلوبه في الشرح والتفصيل أكثر من موضوع الدرس ، وكلما انتهت الحصة حفزني بما أحب من أنواع الحلويات والشكلاطات والدميات كي أستقبل دروسي في المدرسة بنشاط فوق المعتاد و بعد الرجوع إلى البيت يلاطفني لمواصلة مراجعة المواد الدراسية مع أساتذة الساعات الإضافية المنزلية وتقوية لغتي العربية والفرنسية ، وحتى أدخل على أبي السرور كنت أكتب مع كل موضوع إنشائي في المدرسة قصيدة إما بالعربية أوالفرنسية لألقيها عليه فيستمع إياها بإمعان وقوفا بابتسامة عريضة بينما أجلس أنا على أريكته الخاصة به تلميحا منه إلى إشعاري بالفخر والرضى عن إبداعي كثمرة تشجيعه واهتمامه الفائقين بخصوصي رغم أن صبره كان أيوبيا اتجاه عنادي وشغبي الذي يتحمله بتبات ذوي الألباب ، كان أبي يعلمنا الإحسان إلى الفقراء في صغرنا يختار كل يوم واحدا من أبنائه وقت الغذاء والعشاء ليقدم صينية الطعام إليهم قبل الشروع في الأكل ، ومن مناقبه كان المحتاجون يعلمون موعد أبي معهم للصدقة التي يفرح بها أكثر منهم لأنه كان يؤمن بأنها تقع في يد الله قبل أيديهم كم كان والدي رحمه الله وفيا لأصدقائه يتواصل معهم وإن بعدوا عنه في المسافة أو أكبر منه سنا يزورهم ويؤازرهم كان رجل المواقف الصعبة لا يترك من يعرفه في شدة كان لكل الناس بالمعروف مشهور وبالصدق علم موصوف ، فلندخل إلى تاريخ تلك القامة ونبدأ من أيام نعومة أظافره فهناك إرهاصات لكل رجل عظيم ، أبدأ سردي برعاية جد مولاي الحسن أبي الطفل الصغير ذو العينين الزرقاوتين وشعره الأصفر و وجهه المنير ابتسامته الملائكية حضوره اللافت وشخصيته المحبوبة وكأن الله ألقى عليه محبة منه ، فمن رآه أحبه !!! ففي مرة زار جد مولاي الحسن أحد أصدقائه وأسرته من العلماء المغاربة الذين اشتهروا بنشر العلم في تخوم إفريقيا وتحديدا في دولة السنغال بالعاصمة دكار إسمه الفقيه مولاي عبد القادر الصقلي رحمه الله ومعه زوجته الطويلة القامة الرشيقة القد جميلة النفس هادئة الطبع ذات اليدين المنقوشتين بالحناء ترتدي عباءة مزركشة الألوان يفوح منها طيب النفس قبل رائحة الطيب تحمل فوق حضنها طفليها التوأمين الرضيعين فلما نظرت إلى مولاي الحسن ذي السنتين من عمره كأن شيئا دخل قلبها واستقر به أحست بإلهام غريب أن ذلك الصبي سيكون له شأن كبير ، ومع الأيام أصبحت تهتم به وهو يبادلها الحب الفطري وكأنها أمه فعلا إلى درجة أنها طلبت من جده أن تأخذه معها إلى السنغال فرفض بداية لكن لما تأكد من عاطفتهما القوية خصوصا وأن حفيده فقد أمه عند ولادته ، انثنى جده ووافق على سفر مولاي الحسن مقابل أن تعلمه السنغالية (نداك نجاي) القرآن إلا أن السنغالية أحست بخوف جده عليه فأعطته طفليها التوأمين ليطمئن قلبه ولأنها خشيت أن يبدل رأيه وهكذا ظل التوأمان في المغرب تحت رعاية الجد إلى أن عادت والدتهما للمغرب لتحيي صلة الرحم معهما ومع ابنها الروحي مولاي الحسن الذي غادر السنغال قبل سن العاشرة بعدما وفت بوعدها ولقنته علوم القرآن الكريم من أفضل الشيوخ والعلماء وكذلك علمه زوجها فنون تجارة الأثواب إلى أن اشتاق إليه جده وقرر عودته إلى فاس لدراسة العلوم الشرعية بالقرويين ، ومن الناحية العاطفية كان من عادات المغرب تزويج الشباب في سن مبكر فخطب له جده ابنة عمه واشترط أن يكون كتب الكتاب بعد التخرج من الجامعة ، ومرة من المرات كان ضيفا عند أصدقاء عائلته من وجهاء مدينة زرهون ( الشرفاء الشبيهيون ) و من شدة احترامهم له أهدوه إحدى بناتهم للزواج فوافق على العقد متناسيا خطبة ابنة عمه التي تعلقت بشخصه كثيرا وتنتظر كتب الكتاب ، كل هذا بسبب تقديره لكرم الضيافة وبعد ستة أشهر من الزواج وسنه لا يتجاوز الرابعة عشرة تبين أنهما لم يتفقا فتقرر الانفصال ، ثم عاد مولاي الحسن إلى جده ليدرسه علم الفرائض بجامعة القرويين وقد أتقن هذا العلم إلى أن أصبح مرجعا للناس هناك وحكما عدلا بينهم في توزيع الميراث ، وبما أن هذا العلم يتطلب التفوق في المواد العلمية من الرياضيات فقد سطع نجمه في الحساب والجبر إلى حد كبير ، ثم تعلم الحقوق وصار محاميا ذات كفاءة عالية وقد حفزه الأميرالقاضي بن إدريس فقيه النوازل الذي كان ينوه بأداء مولاي الحسن لرسوم المحكمة للفقراء من ماله الخاص وتعززت صداقتهما رغم فرق السن بينهما إلى تناول وجبة الغذاء معا بعد العودة من المحكمة يوميا لسنين طويلة ، وبعد التحاق جده الملقب بسيدي الشريف بالرفيق الأعلى قرر أعمامه تزويجه من جديد بينما هو رافض لذلك خصوصا بعدما تزوجت ابنة عمه ، فاحتالوا عليه وأروه فتاة جميلة أعجبته وقبل بها زوجة وفي يوم الزفاف اكتشف الخدعة أنهاليست التي رآها أول مرة والدليل هو أن الأولى كانت شقراء والثانية سمراء ورغم أنها من عائلة جد ثرية وعريقة عزف عنها . أما أجمل حياة مولاي الحسن زواجه الأخير فتاة جميلة حافظة لكتاب الله في سن الثانية عشرة من أسرة عريقة تحب العلم والعلماء ومن مزاياها أنها اشترطت عليه أن تكتمل ابنتهم دراستها بعد الزواج ، فأوفى بعهده وكان لهم ما أرادوا ، ( تلك الفتاة هي أمي الشاعرة لالة مريم بنجلون ) إلا أن مولاي الحسن ظل يحب الأثريات والأشياء القديمة النفيسة التي أخذ حبها من أمه الروحية "نداك نجاي" السنغالية التي كانت تخبئ له الحلوى في ساعة البيت الكبيرة التي كانت تذهل عقله وهي سبب شغفه بكل ماهو أثري ، لذلك قرر مولاي الحسن أن يقيم بباريس لدراسة فن الآثار حتى صار خبيرا متمكنا في أنواع التحف ورجل أعمال ناجحا في الاستيراد والتصدير من وإلى أوروبا والمغرب ، ومما زاده حبا في بلده غربته في وطن احتل وطنه فكان على الدوام يساند أحرار المغرب المقاومين ماديا ومعنويا إلى أن تعرض لكثير من المضايقات من الحكومة الفرنسية لدرجة أنهم صادروا بيته الذي كان بأشهر مكان بباريس شارع شانزليزي وفي هذا المنزل حديقة غناء فيها أشجار مثمرة والزهور والورود بمختلف أصنافها وكانت تزينها الطرقات التي تتوزع بين أحواض الزروع أما بداخل البيت فهناك كنوز من التحف النادرة الثريات النحاسية التي تتلألأ بها تلك الأضواء والمجسمات من البرونز والفضة لها أشكال من الأحصنة والغزلان وطاولات من خشب السان المطعم بخطوط عربية مذهبة ، وبالأركان ساعات كبيرة ضخمة يصل ارتفاعها إلى السقف وكانت دقيقة التوقيت مكلف بصيانتها رجل مختص بتنظيفها وسلامة عملها ، ترن على رأس كل ساعة في نفس اللحظة بأجمل الألحان الموسيقية الرومانسية الآسرة ، لقد اعتاد مولاي الحسن كلما أراد الذهاب إلى المغرب أن يترك بالمتحف خالتي وزوجها الفرنسي المسلم ( أناكليطو)و المربية جانيت لرعاية أخي البكر الذي يتابع دراسته بالطور الابتدائي ، لكن إقامته بالمغرب تخللتها مآسي مثل ضياع بيته الجميل بفاس هذه الضربة الثانية أما الضربة الثالثة التي قسمت ظهر البعير موت ابنه مولاي أحمد ذي الست سنوات مولاي أحمد الذي دخل من جراء التحسر على وفاته في غيبوبة دامت ستة أشهر حتى أنه تحول بيته إلى مصحة مجهزة بكل الأدوات الطبية اللازمة والحمد لله كللت جهود أطبائه بالنجاح شوفي و استعاد حياته الطبيعية ثم رجع إلى باريس ليتابع مهامه ومسؤولياته ليكتشف أن منزله تعرض إلى سلبه إياه من قبل السلطات الفرنسية كعقوبة مد العون المادي للمقاومين بالمغرب فقدم شكوى اعتراض عساه يستعيد ملكه لكن لا جدوى لمحتل أن يتراجع عن قراره فاضطر بعد مرافعات عديدة بالمحاكم إلى الصمت والجواب بمواصلة كفاحه لكونه ذي كعب عال بثقافته وغناه المادي والفكري لذلك نهض من خساراته بالمغرب وفرنسا سريعا رغم صعوبة التفاصيل ، وكان كريما مضيافا لوجوه مشهورة في باريس من كتاب وقادة عسكريين كان صديقا مقربا لجميع الطبقات النبيلة يده ممدودة لهم وبيته مفتوح لاستقبالهم باستمرار مما أدى إلى رفع رصيد حب الناس من جديد له وزاده تألقا لدى زبنائه واكتسب سمعة التاجر الصادق الأمين . والجذير بالإظهار هو أن أبي كان يعمل في الظل ولا تعنيه الشهرة والخيال رغم فراسته القوية للحاضر نتيجة المستقبل ، واقعي إلى حد المنطق يعتبر الحظ برنامجا تسبقه المثابرة والعمل الجاد ، أبي هو من رسم خارطة طريقي نظرا لأني كنت مدللته المفضلة يخصص لي بعض وقته الثمين للاستماع إلى أحاديثي الميتافيزيقية المشبعة بالخيالات الخرافية تتخللها تعبيرات ارتجالية شعرية أحيانا ، إلا أن تعقيباته دوما الشعر ليس ميداني وبالتالي ليس من حقي إصدار أحكام خارج اختصاصاتي .
بقلمي د. فاطمة الزهراء
بن عدو الإدريسي
يتبع/ ●
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق