يُحسَبُ علـىٰ المبادَرةِ المُجتَمعيَّةِ!
تَقديمٌ:-
الوَمضةُ المَعروضَةُ بينَ أيدينا..
لَمحَةٌ خاطفةٌ قَصَّتْ بِها الكاتِبَةُ عَلـىٰ المُتَلَقِّي رُؤيَتَها في حياةَ امرأةٍ، وَ باغَتَتْهُ بنهايةٍ غيرِ متوقعةٍ، قَدّمَتِ النَّصيبَ الذي تَحصَّلتْ عليهِ بَطلةُ وَمضتِها!
بإيجازِ وَتكثيفِ سَردٍ قَصصيٍّ في خمسِ مفرداتٍ، وَضعتِ المُتلقّي إزاءَ قصَّةٍ قريبةٍ إلـىٰ وَصفِها بــ (الصَّاعقَةِ). قَيَّدَتْ تَفكيرَهُ بينَ فِعلي طَرفي الوَمضةِ (لاحَقَ.. فازَ) وَ بِمفارَقَةٍ تَصويريَّةٍ مُتقنَةٍ.
أَصلُ المَوضُوعِ:-
النَّصُّ:- ومضةٌ بعنوانِ "نَصيبٌ"
الكاتِبةُ:- نواعم الجوهري/المَغرب
قَراءةُ:- صاحب ساجت/العراق
أولًا:- تَحليلُ النَّصِّ...
"نَصِيبٌ"
(لاحَقَتْهَا العُيُونُ؛ فَازَ بِحُبِّهَا أَعْمَیٰ.)
تُلَمِّحُ الوَمضةُ إلـىٰ ما آلَتْ إليهِ الأفكارُ، وَ الآراءُ في بيئةٍ إجتماعيَّةٍ مَوبوءةٍ بصراعاتٍ عَبثيةٍ علـىٰ الفَوزِ بعرشِ التَّحكُمِ و السِّلطةِ علـىٰ ما هوَ أدنىٰ مَكانةً في المجتمعِ، وَ أضعفُ كَينونَةً وَ وجُودًا في حَلَبةِ صراعٍ بينَ جنسٍ وَ شريكِهِ، أشبَهُ بِحلبةِ صراعِ دِيَكَةٍ، يُقاتلُ بعضَها البعضُ في لقاءِها. وَ نسيجُ المجتمعِ وَحدَهُ يَدفعُ خَسائرَ تِلكُمُ الصَّراعات، في أزمنةٍ قَد تختلفُ نسبيًا فيما بينَها، لـٰكنَّها تتكررُ في نَواميسِ المجتمعاتِ، بِحيث تُخَلِّفُ ضحايا وَ خسائرَ لا يمكنُ تَعويضُها، إلّا بتغييرِ فلسفةِ المجتمعِ وَ علاقاتِ ناسِــهِ وَ تلبيةِ حاجاتِهم، وَ العَودَةُ الصَّادقَةُ إلـىٰ أَحكامِ الآيَةِ الكَريمَةِ:- {يَا أَيُّهَا النَّاسُ
إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ
عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} (الحجرات ــ ١٣)
ثانيًا:-ما هوَ العِنوانُ؟
العنوانُ أحدَ عناصرِ النَّصِّ وَملحقاتِهِ، بَلْ أهمِّها، نَظرًا لكونِهِ مَدخلًا أساسيًّا في قراءةِ الإبداعِ الأَدبيِّ وَ التَخيُّلي.
وَ يُعَدُّ عَتبةٌ وَ بدايةٌ للنَّصِّ، وَ إشارتُهُ الأولَـىٰ، وَ علامتُهُ الَّتي تطبعُ تَسميتَهُ
وَ تُميِّزُهُ عَنْ سِواهُ.
"نَصِيبٌ"
اسمٌ مُفردٌ نَكرةٌ، عامٌّ يَسمحُ للمتلقِّي
أنْ يَلِجَ - عَبرَهُ- حَدثًا رَصدتْهُ الوَمضةُ، وَ أحاطَتْ بِحَيثيّاتِهِ.
يَمنحُ حُريةَ تأويلِ دلالاتٍ وَ علاماتٍ سَبقتِ السَّردَ. وَ بالعنوانِ يَكتملُ النَّصُّ، وَ هٰـذهِ هي مَهَمَّةُ العُنوانِ.
"نَصِيبٌ" جَذرُهُ (نَصَبَ) أَي: وَضعَ الشَّيءَ وضعًا ناتِئًا، كَنَصْبِ الرُّمْحِ أو الحَجَرِ!
* لُغَةً ــ الحَظُّ المَنصُوبُ أو المُعيَّنُ مِنْ كُلِّ شيءٍ. {لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ
كَثُرَ ۚ نَصِيبًا مَّفْرُوضًا} (النساء ــ ٧)
وَ نقولُ دائمًا:- هٰذا نَصيبي منَ الحياةِ.. بمعنَىٰ:-هٰذا حَظًّي!
* اِصطلاحًا ــ النَّصيبُ جِزءٌ مِنْ شَيءٍ يَنالُهُ المَرأُ منْ تَرِكَةٍ، أو علمٍ، أو حظٍّ،
أو أسهُمٍ، أو خُلُقٍ.{وَ لَا تَنسَ نَصِيبَكَ
مِنَ الدُّنْيَا ۖ }(القصص ــ ٧٧)
ثالثًا:- تَفكيكُ مُحتوىٰ النَّصِّ...
حَملتِ الوَمضةُ فِعلينِ، في كِلاهُما يَبتَغي الفاعلُ نتيجةَ الظَّفرِ..
* صَدرُ المَتنِ.. ( لاحَقَتْهَا العُيُونُ )
'لاحَقَ' فِعلُ فاعلٍ حَقيقيٍّ، تَحكمُهُ التربيَةُ وَ الأخلاقُ وَ الوَعيُ.
لاحَقَ يُلاحِقُ، ملاحقَةٌ، مُلاحِقٌ/الفاعلُ، مُلاحَقٌ/المفعولُ، بمعنَىٰ:
طاردَ، تَتبَّعَ، تَعقبَ الخُطَىٰ..
وَ هو المعنَىٰ المُرادُ في الوَمضةِ.
وَ للأسفِ اِستعمالُ هٰذا الفعلِ بهذهِ المَعاني.. يَدلُّ علـىٰ قَصدِ القَبضِ علـىٰ المُلاحَق عُنوَةً!
وَ"التاءُ" ضميرٌ متصلٌ عائدٌ علـىٰ الفاعلِ "العُيونُ" جَمعُ عَينٍ، وَ هي أسُّ الوَمضةِ وَ عِقدَتُها، لأنَّها جاءتْ في الصَّدرِ صَراحةً، وَ في العَجزِ ضِمنًا (أعمَىٰ).
هُنَا.. استعارةٌ حَسَنةٌ، صَريحةٌ لِمعنًىٰ غَيرُ ما وُضِعَتْ لهُ، لغَرضِ توسعةِ الفِكرةِ!
فَالعيُونُ لا تَتَّبعُ أو تَتعقَّبُ الخُطىٰ، لٰكنَّها كشَّافٌ ضَوئيٌّ لِنَوايا حاملِها،
وَ هو المُلاحِقُ.
وَ في مجالِ اِختصاصِها، أرسلتْ
إلـىٰ العَقلِ إشاراتٍ عنْ شيءٍ ماديٍّ، يَنبغي تَفسيرَها، وَ توجيهَها علـىٰ وِفقِ مُرادِهِ، لِيَحكُمَ بآليةِ تنفيذِ ما وَصلَ إليهِ.
* عَجزُ المَتنِ ( فَازَ بِحُبِّهَا أَعْمَیٰ)
أمّا الفعلُ الثّاني فعلُ العجزِ " فازَ"
فِعلٌ مَحسوسٌ غيرُ مَلموسٍ، مَعنويٌّ غيرُ ماديٍّ، يَكادُ يكونُ ذَا سُلطَةٍ جَبَّارةٍ، تُؤدي إلـىٰ دفعِ وَ اَستنهاضِ قُوًىٰ نفسيةٍ، كامنةٍ في ذاتِ الإنسانِ وَعَقلِهِ، أهمُّها: ــ الضّميرُ وَ الأفكارُ وَ الوعي.
فازَ بالشيءِ فعلُ ماضٍ متعدٍّ بحرفٍ، معناهُ:- نالَ الشَّيءَ أو قهرَ عدوًّا أو اِنتَصرَ...
فَثَمَّةُ مواجَهةٌ حَصلتْ بينَ فِعلَي النّـصِّ (لاحقَ ، فازَ ) باسلوبٍ قَهري
عن طريقِ ردعِ اللِّحاقِ بالمُلاحَقِ،
مَنعًا لتنفيذِ مآربٍ دَنيئةٍ وَ مُستهجنَةٍ، مِمّا حَدَا بِالمَعني الهُرُوبُ منْ وابلِ سِهامِ العُيونِ غيرِ البَريئَةِ!
بَيْدَ أنَّ هٰذهِ المُواجهةَ..
كَالمستجيرِ مِنَ الرَّمضاءِ بالنَّارِ!
فَالعدُولُ وَ الهرُوبُ لمْ يَمنعَا وقوعَ الأنْكَىٰ وَ الأقسَىٰ، ذٰلكُمْ هوَ:-
الوقوعُ بِحُبِّ أعمَىٰ، وَ الظَّفرُ بِهِ!
رابعًا:-أسلوبُ كتابَةِ الوَمضَةِ...
* يَبدُو أنَّ الكاتبةَ جعلتْ شخصيَّةَ النَّصِّ المحوريَةِ اِمرأةً تَحملُ هَمَّ بناتِ جِنسِها، وَ مقدماتٍ أثارَتْ ما يُؤلمُ وَ يَعيقُ مَسارَ حياتِها، بالشَّكلِ الأَمثلِ.
* الإستعارةُ:-
صَدرُ المتنِ " لاحَقَتْهَا العُيُونُ " حُذِفَ الطرفُ الأول 'المُشبَّهُ' وَ تَقديرُهُ:- أصحابُ.. وَ صَرَّحَ بــ 'المُشَبَّهِ بهِ' الطرفُ الثاني ' العيُونُ '. وَ الأصلُ: أصحابُ العيُونِ لاحَقُوا.. فَهي إستعارةٌ تَصريحيَّةٌ.
أمّا في عجزِ المتنِ "فَازَ بِحُبِّهَا أَعْمَیٰ" إستعارةٌ مَكنيَّةٌ. حُذِفَ فيها المشبَّهُ بهِ وَ أُشيرَ إليهِ بشيءٍ مِنْ لَوازمِهِ معَ ذكرِ المُشبَّه.
شَبَّـهَ الأعمَىٰ بِبَصيرٍ يَستحوذُ علـىٰ حُبِّ قَلبِ اِمرأةٍ فَـ(الأعمَىٰ كالبَصيرِ فازَ بحبِّها)، ثُمَّ حذفَ المُشبَّهَ بهِ (البَصيرَ)،
وَ أُشيرَ إليهِ بِصفةٍ منْ صفاتهِ (الفوزُ وَ الإستحواذُ)، وَ رَمزَ لهُ بشيءٍ منْ لَوازمِهِ كَقرينَةٍ.
* فِعلَا النَّصِّ زَمنُهُما ماضٍ، فاعلُهُما مَعلومٌ، يَدُلّانِ علـىٰ وُقوعِ الحَدثِ قبلَ زمنِ التَّكلُمِ، لِحيويتهِ وَ حَركتِهِ المستمرَّةِ وَ أهميَّتِهِ. وَ قدْ يَدلُّ علـىٰ الحالِ وَ الإستقبالِ، طالَما العَلاقاتُ المُجتمعيَّةُ لها أثرٌ كبيرٌ في تَسْييرِ أحداثِ الحَياةِ.
* خاتمَةُ النَّصِّ هي غايَةُ الكاتبَةِ الَّتي شَرعَتْ لِلوُصولِ إليها بأقَلِّ الكَلماتِ،
وَ بِحِلَّةٍ بديعَةٍ وَ مُمتعَةٍ، تُعَدُّ نَقلةٌ سريعَةٌ منْ أعماقِ النّصِّ إلـىٰ خارجِهِ، تقدِّمُ عنصرَ الدَّهشَةِ وَ الإستفزازِ.
فالنَّهايَةُ جاءتْ مُباغِتَةً، غيرَ متوقعَةٍ، أحدثَتْ صَدمَةً، لأنَّها خاطبَتْ مزيجًا
مِنَ المَشاعرِ لَدىٰ المُتَلقِّي...
أخــــــــيرًا
سارَتِ الومضةُ بمسارٍ منطقيٍّ واضحٍ، ضمنَ سياقٍ واحدٍ، واضعةٌ أمامَ المُتلقِّي مَفاهيمَ كبيرةً بأثرِها، بخمسِ كَلماتٍ،
وَ بفعلينِ يَنبضانِ بِحركةٍ سَريعةٍ، يَستهدفانِ تَوجيهَ نَقْدٍ لاذِعٍ وَ لَومٍ قاسٍ لِكلِّ ما يُخرِّبُ كَيانَ المُجتمعِ وَ نَسيجَهُ، وَ تحتَ أيِّ سلطةٍ بمسمياتٍ ما أنزلَ الـلّٰهُ بها.. سُلطانًا!
فَضلًا عَلـىٰ أنَّها رَفعَتْ لواءَ الٕاحتجاجِ عاليًا ضِدَّ الظُلمِ وَ الوَحشيَةِ، وَ بِعنوانٍ باتَ طُمُوحُ كلَّ إنسانٍ في المَعمورَةِ..
كُلُّ التَقديرِ وَ الاحترامِ للإستاذَةِ الفاضِلَةِ (نَواعم الجَوهري) لِجُهدٍ
مُلتَزمٍ وَ هادفٍ في زمنٍ قَلَّتْ فيهِ الجَرأَةُ وَ المُبادرةُ الطَّيّبةُ، وَ عَسَىٰ
أنْ أكونَ قدْ قرأتُ نَصِّها، بالشَّكلِ المَطلوبِ وَ السَّليمِ، بُغيَةَ تَقديمِهِ كَإنَموذجٍ يُقتَدَىٰ بهِ في نَشرِ وَعيٍّ اِخلاقيٍّ باسلُوبٍ أَدبيٍّ.. حَتَّىٰ لَو كانَ بِمفرداتٍ لمْ تَتجاوزْ أصابعَ الكَفِّ الواحدَةِ!
معَ أطيبِ التَّحياتِ
(صاحب ساجت/العراق)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق