الثلاثاء، 3 أكتوبر 2023

من رواية ملح السراب 3 بقلم مصطفى الحاج حسين

 * من رواية  ملح السّراب  3


         مصطفى الحاج حسين .


        كان " سامح " يتقدمنا بعدة أمتار ، حين بدأنا ندخل متسللين إلى" مقطع الزَّاغ " ، ومنذ أن خطونا إليه ، تسرّبت إلى أجسادنا برودة عفنة ، فشعرنا بالرّاحة والنّشوة ، لأنّ حرارة الجّو في الخارج كانت خانقة .


       اجتزنا الطّريق الضّيقة المتعرّجة مبتهجينَ ، ولكنّ إحساساً داخلياً بالإنقباضِ والوحشةِ أخذ يراودنا .


       قبعت الظّلمة في المكان ، غير أنّ الجّدران الحوّارية البيضاء خفّفت منها فبدا المكان أشبه بكهفٍ مسحور

صاح  'عثمان " :


- انتبهوا من الجنّ والعفاريت .


وتردّد صوته مختلطاً بقهقهات"سعيد الجّدع"، الذي ظهر من خلال ضحكته شيء غير طبيعي ، يشير إلى خوفه وفزعه . وعندما سكتت الجّدران عن ترديد صدى الضّحكة ..

قال :


- أنا لا أخاف منها .. ففي رقبتي سلسال مكتوب عليه (الله - محمد )  وهو يحميني من الشّياطين .


قلتُ معلقاً على كلامه ، وقد أخذ الممرّ الضّيق بالإتّساع والعتمة تتضاعف ، بينما الانحدار نحو الدّاخل يزداد حدّة :


- لكنّ سلسالكَ هذا لا يحميكَ من أرواح الأموات المنتشرة قبورهم على سفح الجّبل.


صرخ "عمر" وكان يمشي خلفنا :


- ياأولاد الحرام ، اتركونا من سيرة الأموات والجّن وإلّا سأرجع إلى الحارة .


       البرودة تزداد قوّة وحلكة كلّما توغّلنا ،لدرجة أنّنا شعرنا بقشعريرة البرد تسري في عروقنا ، بينما كان الماء ينزُّ من السّقوف والجّدران مخرجاً خريراً منبعثاً من الأعماق 

يتناهى إلى أسماعنا .


صاح "سامح" أبن عمّي فجأة ، بصوت مليءٍ بالدّهشة والفرح :


- يا جماعة .. أشمُّ رائحة نار .


فأسرعنا نهبط فرحين ، وحقيبة" سامح " المدّرسية كانت تتأرجح خلف ظهري ، فقد كنتُ أحبّ دائماً حملها معي ، ليظنّ من يراني بأنّي طالب مدرسة .


زعق "عثمان" :

- رائع عندي سيكارتان " ناعورة " ولا أملك شعلة .


       وصلنا إلى ساحة مترامية الأطراف ، يبدو أنّها في القاع تماماً . فسرقت عيوننا نار متأججة يتحلّق حولها ثلاثة شبّان . إلى جوارهم تناثرت زجاجات العرق .


       انكمشنا في أماكننا جامدين ، بينما تتفرسنا أنظار الشّباب بدهشة وبهجة واضحتين .


قال أحدهم ، وكان يدعى" جمعة زقّان " ، بصوت خرجت بحة المشروب معه :


- تفضلوا ياحلوين .. تعالوا .. لا تخافوا ، لا يوجد بيننا غريب .. كلنا أولاد حارة .


       بقينا على وقفتنا خائفين ، ودقات قلوبنا تطرق صاخبة عنيفة .. إنّ " جمعة زقّان " هذا نعرفه تماماً ، ونعرف شلّته أيضاً ، فكلهم مجرمون ، يغتصبون الأولاد . وكثيراً ما حذرني والدي منهم  .


صاح الثاني ، واسمه " حمّود النّازل " ، وهو ذو يد مقطوعة :


- تعالوا .. دخنوا واشربوا العرق .


 وكرع جرعة من زجاجته ، ثمّ أردف قائلاً :


- "تقبروني ما أحلاكم " .


صرخ الثّالث ، وكان يدعى " لطوف النّابح "، وكان له صوت يشبه نباح كلب ، يخرج من تحت شفته المشرومة :


- هربتم من المدرسة يا عكاريت ، جئتم وألله بعثكم لنا ، الحرارة متوتّرة معنا .


قال ذلك ونهض نحونا . صرخ أحدنا بفزع :


- اهربوا .. اهربوا قبل أن يمسكوا بنا .


       انطلقنا راكضين صوب الخلف ، كان الانحدار صعباً هذه المرّة ، وليس من صالحنا ، وبدأت أقدامهم بدبيبها المرعب تضطرب خلفنا ، ونحن نلهث مذعورين، قلوبنا ترتجف بشدّة لم نعهدها ، وأنفاسنا تضيق حتى كأنها سوف تتفجر ،

والحقائب خلف ظهورنا تزيد من توترنا وخوفنا بتأرجحها ، مما جعلني أندم على حملها في هذه المرّة ، وخطر لي أن أرميها لإبن عمّي " سامح " ، لكن لا مجال الآن ، ونحن نهرب مذعورين .


       انبعثت صرخة ذعر حارقة من خلفي . لقد سقط " سامح ' ابن عمي في أيديهم ، تفاقم الفزع فينا ، أسرعنا بكلّ ما نستطيع ، صاعدين متوقعين أن تمتد يد غليظة الأصابع فتمسك بنا من ياقاتنا ، كنت الأخير خلف رفاقي ، وكان صراخ " سامح " وعويله المجنونان يدفعانني لبذل طاقتي النهائية في الصّعود .


       أخيراً وصلنا إلى فوهة " المقطع " ، استدرنا للخلف ، كانت أصوات الأقدام قد انقطعت ولم نر أحداً .


 لقد عادوا ليفترسوا  " سامحاً " الذي لم نعد نسمع له أيّ صوت.


       توقفنا على مسافة غير بعيدة ، وصدورنا تعلو وتهبط مسرعة كخوفنا ، وأجسادنا مغسولة بعرقنا الحارق ، كصوت 

" سامح " حين أمسكوا به .


قال " عمر " يخاطبني بصوت متهدّج :


- " رضوان " .. عليك أن تخبر بيت عمّك حتى ينقذوا ابنهم .


قاطعه " عثمان " :

- ماذا ؟ .. إذا قمنا بتبليغهم يافهيم فسوف يعلم أهلنا بهربنا من المدرسة .


قلت وقد بدأ التّعب يزايلني :


- ليس أمامنا وسيلة لانقاذ " سامح " غير تبليغ عمّي ،وبسرعة قبل أن يقوموا باغتصابه .


ضحك سعيد الجّدع(صياد الجرابيع)

وعلّق على كلامي :


- منذ اليوم صار لقب " سامح " ( مفعول به).


قهقه " عثمان " حتّى آلمته خاصرته ، وقال:


- لأوّل مرّة يهرب من المدرسة فيتعرّض للإغتصاب .. وتابع قهقهته .


صرخ " عمر " بانزعاج :


- أنتم حقراء .. أولاد كلب ، تضحكون بينما لا نعرف ماذا جرى " لسامح " .


       تخيّلت " جمعة زقّان " صاحب الرأس الكبيرة ، والأنف الممطوط ، وهو يشمّر " كلابيته " وينزّل " شرواله " واضعاً سكينه فوق عنق " سامح " ، بينما يحاول أفراد العصابة جاهدين تثبيت " سامح " .


- أنا ذاهب لإبلاغ " عمّي قدّور " .


قال " عمر " وهو يتبوّل من الرّعبة :


- اذهب بعجلة .. أمّا نحن فسنبقى هنا لنراقب الوضع ، فربما يأخذوا " سامحاً " إلى مكان آخر .


       رميت حقيبة " سامح " من خلف ظهري وانطلقت كالصاروخ ، منحدراً من قمة الجبل نحو البلدة .


       في غمرة هذه الأحداث ، وهذا الانفعال، كانت تداهمني موجات من الفرح ، فأنا لا أحبّ " سامحاً " منذ وعيت الدّنيا بسبب امتيازه عنّي بدخوله المدرسة .


       غير أنني سرعان ما كظمت فرحي هذا، وعاودتني حالة الخوف والقلق ، " فسامح " ابن عمّي قبل أيّ شيء آخر ، وقد هرب من المدرسة لأوّل مرّة لارضائي بعد أن هدّدته بالزّعل فوافق . ثمّ ماذا سيكون موقفي من أبي وعمّي " قدّور " إن أعترف " سامح " بأنّي سبب هروبه من المدرسة ؟ .


       في الطّريق ، بينما كنت أركض بين الأزقة ، وعند المنعطف تماماً ، برز والدي " بشرواله " وسترته " الكاكية " المعهودة ، توقفت في مكاني ، تجمّدت أمام نظرته الصّارمة .


- هارب من الشّغل " يابندوق " ؟!.


       حافظت على صمتي المبدّد بلهاثي ، ماذا أقول ؟..هل أخبره بما يحدث " لسامح" ، لم أكن أتوقّع رؤيته ، فلم أرتّب كذبة في ذهني تنطلي عليه .. وتأكّدت أنّه ترك عمله ليبحث عنّي .


- عاقل باابن " القحبة " ، تتظاهر بالمسكنة ، والله لأريك نجوم الظّهر .


     وهوت كفّه، ثقيلة خشنة ، صفعتني بقوة، تطاير الشّرر من عينيّ ، ترنّحت ، سقطت ، ركلني ، جاءت ركلته على خاصرتي

 ،طارت فردة " الصّرماية " الحمراء من قدمه ، نهضتُ ، فقذفني بها على رأسي .


- آخ يا " يوب " التّوبة . وحق المصحف ماعدت أهرب .


- امشِ إلى الدّار ياابن " الجحشة " بدّي ألعن أبوك على أبو أمك .


       سبقته بعدّة خطوات ، خائفاً من ضربة مفاجئة ، ولهذا كنت ألتفت خلفي لأتأكّد من بعد المسافة عنه ، بينما أتنشّق مخاطي المختلط بالدّم المتدفق من أنفي .


       سبقني صراخي إلى الدّار ، ففتحت أختي" مريم " الباب ، واستقبلتني أمي بوجهها الشّاحب ، وعينيها الفزعتين ، فتعالى بكائي ، وتضاعف تأوّهي :


- ياأمّي ... خاصرتي .


وقفت أمّي حائلاً بيني وبين أبي ، وقالت تسأله :


- خير إن شاء الله .. ماذا فعل " رضوان " حتى تعاقبه ؟.


وأتاها صوته ليرعب " مريم " وتنكمش على نفسها :


- ابن " الصّرماية " هرب من الشّغل .


 قال ذلك وهو بالكاد يلتقط أنفاسه.

  

- يلعن " أبو الشغل " ستقتل الصبي ، الولد لا يحبّ صنعة العمارة .


صرخ أبي وقد زاده غضباً كلام أمي :


- كلامك هذا يشجّعه على الهرب ، عليَّ الحرام والطلاق بالثلاثة سأشتري له قيداً وجنزيراً .


توقفتُ عن البكاء برهة ، مددتُ رأسي من وراء أمي ، وقلت :


- أنا لا أريد أن أشتغل في العمارة، أرسلوني لعند الخياط فلا أهرب .


هجم نحوي ، صوّب ركلة إلى مؤخرتي :


- عليّ الكفر لن أتركك تشتغل إلّا في العمارة ياكلب ، هذه صنعتي وصنعة جدّك، وستعمل بها .


ثمّ تابع قوله الصّارخ :


- تحرّك أمامي ألى الورشة .


صاحت أمي :


- ألا ترى دمه .. أتركه ليوم غد .


عدّل أبي " جمدانته " فوق رأسه وقال :


- أنا ذاهب للشغل ، وعندما أرجع سيكون لي معك الحساب .


       سحبتني أمي من يدي ، أدخلتني الغرفة الشّمالية ، أخذت تمسح دموعي ومخاطي الدّامي .. وهي تقول:


- ألم أنصحكَ بعدم الهرب ؟.


صحتُ بصوتٍ مخنوقٍ :


- أنا لا أطيق العمل في العمارة .. لماذا لم تدخلوني المدرسة مثل " سامح " ؟ .


       لم أكد أذكر اسم " سامح " حتى قفزتُ من مكاني ، غير عابئ باندهاش أمي ونداءاتها هي وأختي " مريم " ، صرختُ وأنا أجتاز عتبة الدّار :


- يجب أن أبلّغ عمّي " قدّور " لينقذ ابنه " سامح " .. لقد تأخرت .. لقد تأخرت .


           مصطفى الحاج حسين .

                     حلب


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

مشاركة مميزة

‏بنك القلوب بقلم ليلا حيدر

‏بنك القلوب بقلمي ليلا حيدر  ‏رحت بنك القلوب اشتري قلب ‏بدل قلبي المصاب  ‏من الصدمات ولما وصلت على المستشفى  ‏رحت الاستعلامات ‏عطوني ورقة أم...