مثل كل الجيف لفظتهم مياه البحر خارجه، بعد أن ركبوا موجه نازحين، قادمين من الشتات والتشرد، مُبعدين منبوذين، ونبتوا في سواحله كما تنبت الفطريات السَّامَّة، ونموا فيه كما تنمو الجراثيم الوبائية القاتلة، وانتشروا انتشار الطاعون، بتوفر بيئة العفن التي أحدثوها وأنشأوها... .
ويُشاع عنهم كذلك بأنهم بقية باقية من أمم الهمج الهالكة البائدة، نزحت بعد الدمار والهلاك الذي نزل بساحتهم، واستأصل شأفة نسلهم الملعون، وتفرقوا في الأرض شذر مذر، واستوطنوا مناطق كثيرة من بقاع الأرض، وما من أرض حَلُّوا بها ونزلوا فيها، إلا ونقلوا إليها تراثهم العفن النجس، الغارق في العهر والفواحش، والخزي والنذالة والدناءة، ولا موطن لهم معروف على وجه الأرض، وأنهم جنس هجين لا أصل لهم ولا فصل، ونسلهم أنجس وألعن نسل، لا أصل واضح، ولا عقل راجح، ولا لسان بالحق صادح.
وآخرون يقولون إن موطنهم الأصلي، بلاد وراء البحر يقال لها مملكة خنزاريا، وأن طائفة منهم رحلت وهاجرت ثم استقرت في بلاد الأسُود، وهم ديايثة تمتهن إناثهم الرذيلة أسلوب حياة، في التكسُّب والاسترزاق من أجل العيش، وهُنَّ نهبٌ لكل من هَبّ ودَبّ، ويعتمدون في نمط عيشهم أيضا على العمالة للقوي الغالب المتحكم، وحجة هؤلاء الشبه الكبير بينهم وبين خنازير مملكة خنزاريا وراء البحار في أشياء كثيرة، منها الأزياء التي يتزيّون بها، وذلك الاحتفال السنوي الذي يقيمونه في الفضاءات المفتوحة وأمام كل المخلوقات، بعرض إناثهم وهُنّ يقمن بحركات الإغراء والإغواء، والمراودة لذكور الأصناف المختلفة تكسُّبًا واسترزاقا، ويَعُدُّون ذلك تراثا خنزيريا أصيلا، يُعَبِّر عن تاريخهم وثقافتهم وأصالة جنسهم.
ويقولون هم عن أنفسهم أنهم السكان الأصليون لهذه البلاد، وأنهم خنازير راقية من نسل خنزيري ضارب جذوره في التاريخ، وكان من آخر ما قالوه وروَّجوا له، أن الأسُود غازية محتلة لبلادهم منذ أمد طويل، ولذا عليهم الانسحاب والرحيل من بلادهم، إمَّا سلما وإمّا حربا.
وبسبب هذه الأكاذيب، والأراجيف السخيفة التي لا أصل لها، والعصبية المقيتة، والإحساس بالدونية وتفاهة الأصل أمام أُمَّة الأسُود، فإنهم يفتعلون المشاكل الكثيرة باستمرار، والأمُور معهم دائما تسوءُ وتتعقد، فلا هم استطاعوا أن يُصبحوا أسُودا كغيرهم من الأصناف الكثيرة الأخرى، ولا مجتمع الأسُود استقر وهدأت أحواله بوجود أمة الخنازير الديايثة المسخ بينها وإلى جوارها، وترى الأسُود أن السبب في استعصاء أمة الخنازير المسخ وفسادها، وجنوحها إلى العصيان والتمرد، وشق صف وحدة المجتمع، وكسر عصا إجماعه وائتلافه وانسجامه، ترجع إلى أمور نفسية تتعلق بالطبيعة الفطرية الخنزيرية، وأمور تتعلق بالأصل التافه الخسيس، والطبع اللئيم، وسقوط الهمة، بحبهم وعشقهم لمحتل الأمس القريب، وهي الضباع القمَّامة التي استعبدتهم وأذلتهم، وأَوْلَدَت أغلبية إناثهم، وهم الآن شكل آخر غير الشكل القديم، فوجوههم وجوه الخنازير، وأشكال عيونهم وآذانهم وطريقة مَشْيِهِمْ مشابهة لأمة الضباع القمَّامة، وحتى أصواتهم مسخٌ، أسوءُ وأبشعُ من أشكالهم، فهي مزيج بين القُباع، وبين نباح الكلاب المتشردة، ونهيق الحمير، وشحيج البغال، وضحك القرود، وثُغاء العنز، فطبيعتهم لا يستقرون ولا يهدؤون إلا لمن يُذلهم ويُهينهم ويحط منهم، فحينها يُذعنون ويُطيعون ويركنون، فهم لا كرامة لهم ولا دين ولا ملة، وكذلك فعلت معهم الضباع القمّامة وأكثر، لقد فعلت معهم ما يلزم وما لا يلزم، وما خفي أدهى وأنكى وأعظم.
لما احتلت الضباع القمَّامة بلاد الأسود، وذلك عندما ضعفت شوكتهم، وقَلَّ عددهم بفعل الأمراض والأوبئة الفتاكة التي اجتاحتهم، لم يقر للضباع قرار، فالأسُود وعلى قلة عددها وضعف أمرها، قاومت المحتل الغازي ولم تُسَلِّم له بالأمر، فكانت وسيلة العدو هي الاستعانة بأمة الخنازير في ضرب الأسُود ومحاربتها، بعد أن رَوَّضَتها ودَجَّنَتْهَا وحَوَّلَتْهَا من خنازير برِّية إلى خنازير أهلية عميلة، خادمة لسادتها، وأداة طَيِّعَة في أيديهم، فكانوا معول هدم في ضرب استقرار ووحدة المجتمع الحيواني المتجانس، وإطالة أمد الحرب والمعاناة، ولكن بالنهاية انتصر الحق والمنطق، غُلبت الضباع وانهزمت شر هزيمة، هي وأبناؤها اللقيطة أمة الخنازير الهجينة.
ولكن الضباع لم تكف عن الكيد والتآمر ضد الأسُود، وحتى تنتقم لشرفها وهي لا شرف لها، ولا لعبيدها الخنازير الهجينة المسخ الهمج، فإنها تُحَرِّكُهم دائما بالكيفية التي تريد، ضد المجتمع الذي يعيشون في جواره، لأجل إضعافهم وإخضاعهم والتحكم في مصائرهم، والانتقام منهم وتدميرهم.
كل هذا وأمة الأسُود صابرة عليهم، وتحاول جهد ما تستطيع تفادي الصِّدام المباشر معهم، عسى أن يرتقوا يوما ما من أصلهم الدُّوني التافه الوضيع الخسيس، إلى رتبة محترمة مرموقة بجانب من يعيشون معهم وبجوارهم، ويَكُفُّوا عن الدياثة والعمالة للضباع القمّامة، ويَكُفُّوا إناثهم عن البغاء، باعتباره مصدر رزق محمود ومضمون لمجتمعهم.
وترى الأسُود أن الحرب بينها وبينهم هي غاية ما تسعى إليه الضباع القمَّامة، وهي إذا ما اشتعلت وشَبَّ ضرامها ستكون حربا وُجودية، لا مكان فيها لاستثناءات أو حلول وسط، ولن يوقفها شيء حتى تأتي على الأخضر واليابس، ولن تعود الأمور إلى ما كانت عليه سابقا، إلا بهلاك أحد الطرفين هلاكا مُبرما، وتصبح الأرض خرابا بلقعا، فحينها إمَّا الأسُود، وإمَّا الضباع القَمَّامَة وعبيدها الخنازير المسخ، وللحرب آثارها القائمة، وتبعاتها اللاحقة الباقية، وهي لا خير فيها، إلا أنها في هذه الحال، هي أمرٌ حتمي لا مفر منه لرد الظلم والعدوان، وإن المسألة هي مسألة وقت لا أكثر.
اندلعت الحرب وقامت على ساق، وزمجرت الأسود واندفعت مثل الطوفان، وعندما تُزمجر الأسود وتتقدم، تنهارُ جموع الكواسر الأخرى، وتتقهقر ولا تصمد، وتتفرق مُوَلِّيَة مُدبرة لا تلوي على شيء، وتكشفت هذه الواقعة العظيمة عن ضعف وخور أمة الخنازير، فكل ما كان يُشاع عنهم، وكل ما علق بالأذهان ولصق بها، من أنهم أعصياء على الكسر والهزيمة، وأنهم لا يُقهرون، تبيَّن أنها جعجعة دون طحين، وأنهم فقط أبطال من ورق، وأن كل ما شاع عنهم وراج، إنما هو وَهْمٌ في الأذهان، ووَهَنٌ في الأبدان، وأن قُوَّتهم إنما قامت على ضعف أمة الأسود وخَوَرِها، وعمالة بعض أبنائها ممن تحكَّمُوا في مصائرها.
سقطت تلك الصورة المرعبة للخنازير سُقوطا مُدويا، وتلاشت تلك الهالة الكاذبة، التي أشاعوها وروَّجوا لها سنين طويلة، وزالت تحت وقع ضربات الأسُود القوية المدمرة، وهُم الآن يتراجعون في كل الجبهات، يئنون أنين الكلاب الجريحة، التي تستجدي الرحمة والشفقة، ومنهم من ركب البحر مُجددا عائدا إلى دياره وأهله، الذين خَلَّفَهُم وراءه منذ زمن بعيد، والأسُود لا تتوانى في ملاحقتهم، وسحقهم، وإهانتهم، والتنكيل بهم، وذلك جزاؤهم الذي يستحقون، بعد دهر من جرائمهم وطغيانهم، وإفسادهم في الأرض، وبغيهم، وعُلُوِّهِم عُلُوًّا كبيرا.
وإنما النَّصرُ صبرُ ساعة، وإنها لحرب فاصلة قاصمة، إما نصرٌ مُؤزَّرٌ وحُرِّيَّة، يغسل العار، ويُذهب الرّجس، ويُزيل الدّنِيّة، أو ميتة شريفة زكية، يُعذَرَ بها صاحبها، ويُخَلّدُ مع من سبقه من ذوي النفوس الأبِيَّة.
بقلم: عبد الكريم علمي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق