دفنوه بثيابه الرثة ورائحته الكربهة، دون غسل ودون كفن ،ولما فرغوا من حث التراب على جثته نظروا في عيون بعضهم البعض وكأنهم بتهمون أنفسهم بالعجز والفشل اذ لا يوجد امام يلقي كلمة وداع على روح فقيدهم . ثيابهم كانت بالية وأجسادهم تنبعث منها رائحة التشرد ، لا يلتئم شملهم الا على قنينة عطر يلهبون بها أحشاؤهم في اصرار رهيب على تدمير ذواتهم . وبينما هم وقوف تقدم بخطى متثاقلة احميدة الأقرع هكذا يلقبونه زملاؤه ،طويل القامة ،نحيف الجسم ، لم يكن زعيمهم بل لأنه كان أكثر ثرثرة منهم ،كان احميدة الأقرع يجاهر بالألم أمام أقسام الشرطة وهو مطمئن أن لا أحد يلقي بالعفن داخل السجن .وكان ينتقد الحكومة علنا بما يوتوت به الآخرون سرا فيقول بصوت عال :(عملت عام وقعدت عام فوجدت العامين متشابهين) تعبيرا منه على غلاء الأسعار وقلة الأجور.
رفع أحميدة الأقرع يديه إلى السماء بعد أن نزع قبعته الحمراء الممزقة فرفع الجميع ايديهم أسوة به ثم قال بلهجة عاصمية صرفة :( يا رب كن معه أنثيك كما كان معنا أنثيك ) وكان يقصد فيما معناها كن به رحيما كما كان معنا رحيما ،ثم مسح على وحهه وصدره ووضع قبعته الحمراء الممزقة على رأسه . بعدها انصرف الجميع إلى أرجاء المدينة يشحتون النقود ليشتروا بها قوارير العطر يحتسونها مساءا حول نار دافئة في أقبية مهجورة على ضفاف الوادي بعد ما فقدوا وإلى الأبد دفء عوائلهم وأهاليهم.
#بقلم : اسماعيل تومي .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق