«(4)» فلسفة الموت والحياة 4
رؤيتي : د/علوي القاضي.
... وبعد ذلك الإسهاب والسرد والتباين في وجهات النظر الفلسفية في الأجزاء الثلاثة السابقة ، هناك سؤال فلسفي يفرض نفسه ، ماهي أقوى عاطفة يمكن أن (يشعر) بها الإنسان في حياته ، ويتأثر بها ، وتكون حجر الزاوية في فلسفة حياته ؟! ، والإجابة الفلسفية هي مشاعر (الخوف والرجاء) ، (الخوف) من الوقوع تحت وطأة التعلق والأحتياج للٱخرين ، الخوف من الإنهيارات العاطفية تحت مسمى الحب ، الخوف من الوجع والألم عند رحيل شخص ما ، الخوف من الرحيل والموت بدون إنجاز كل ماتتمناه ويجب عليك فعله لدنياك وٱخرتك ، الخوف من أن ينتهي بك المطاف وحيدًا بعد فقد الأحبة ، الخوف من الموت وتنتهي حياتك دون أن تترك أثرًا وذكرى جميلة ، يذكرك الناس بها ، لذلك فقد كان الخوف دائمًا هو الذي يحركنا لفعل أفضل أو أسوأ الأشياء في حياتنا ، ويأتي بعد ذلك (الرجاء) من الله بالعفو والمغفرة والرحمة لما قدمناه في دنيانا
... وقد عالج المنهج الإسلامي مفهوم الخوف والرجاء ك (فلسفة للموت والحياة) ، فقد أكد المنهج على أن العبادة لله تعالى ، لاتكون بالحب وحده ، بل يجب على المسلم أن يجمع في عبادته بين ثلاثة أشياء وهي (الحب لله والخوف من الله والرجاء في الله) ، فيعبد الله تعالى (حباً) وتنفيذاً لأمره ، و (رجاء) لثوابه ، و (خوفاً) من عقابه ، (يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا) ، فيجمع بين الرجاء والخوف ، وما اجتمعا في قلب رجل إلا فاز ، فلاصلاحَ للقُلوبِ إلا بهما ، لذلك يجب أن يكون العبد (خائفا راجيا) على الدوام ، فإن (الخوف المحمود) ماحال بين صاحبه وبين محارم الله ، و (الرجاء المحمود) رجاء رجل عمل بطاعة الله ، على نور من الله ، فهو راج لثوابه ، أو رجل أذنب ذنبا ، ثم تاب منه ، فهو راج لمغفرته ، أما إذا كان الرجل متماديا في التفريط والخطايا ، ويرجو رحمة الله بلا عمل ، فهذا هو الغرور والتمني والرجاء الكاذب ، فالخوف والرجاء كجناحي الطائر ، إذا استويا استوى الطير وتم طيرانه ، وإذا نقص أحدهما وقع فيه النقص ، وإذا ذهبا صار الطائر في حد الموت ، فالرجاء يستلزم الخوف ، ولولا ذلك لكان (أمنا) ، والخوف يستلزم الرجاء ، ولولا ذلك لكان (قنوطا ويأسا) ، والمدهش حقا أنك إذا خفت أحدهم هربت منه ، إلا الله سبحانه وتعالى ، فإنك إذا خفته هربت إليه ، فالخائف هارب من عقاب ربه إلى عفو ربه ، وقيل أن من عبد الله ب (الحب) وحده فهو (زنديق) ، ومن عبده ب (الخوف) وحده فهو (حروري) ، ومن عبده ب (الرجاء) وحده فهو (مرجئ) ، ومن عبده ب (الحب والخوف والرجاء) معا فهو (مؤمن موحد) ، والخوف والرجاء دواءان تداوى بهما القلوب ، ف (الْقَلْبُ فِي سَيْرِهِ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِمَنْزِلَةِ الطَّائِرِ ، فَالْمَحَبَّةُ رَأْسُهُ ، وَالْخَوْفُ وَالرَّجَاءُ جَنَاحَاهُ ، فَمَتَى سَلِمَ الرَّأْسُ وَالْجَنَاحَانِ فَالطَّائِرُ جَيِّدُ الطَّيَرَانِ ، وَمَتَى قُطِعَ الرَّأْسُ مَاتَ الطَّائِرُ ، وَمَتَى فُقِدَ الْجَنَاحَانِ فَهُوَ عُرْضَةٌ لِكُلِّ صَائِدٍ وَكَاسِرٍ ، فاعْتِدَالُ الرَّجَاءِ وَالْخَوْفِ ، وَغَلَبَةُ الْحُبِّ ، فَالْمَحَبَّةُ هِيَ الْمَرْكَبُ ، وَالرَّجَاءُ حَادٍ ، وَالْخَوْفُ سَائِقٌ ، وَاللَّهُ الْمُوَصِّلُ بِمَنِّهِ وَكَرَمِهِ)
... ويقول (إيميل سيوران)
في كتاب (إغراء الوجود) أن الإنسان كائن مهموم طوال الوقت ، كيف لا وهو يملك قابلية الإيمان بفكرة اللانهاية ، ولكنه سرعان مايصطدم بواقع محدودية جسده ، إنه يحلم بالخلود ، ولكن الموت ينتظره دائماً في نهاية المطاف ، في كل لحظة يتطلع فيها إلى الكمال يدرك بسرعة أنه غير كامل بطبيعته ، وكلما أراد أن يكون حراً ، أدرك أنه عبد لأهوائه ورغباته ، يبحث عن السعادة في كل مكان ، لكنه لايجد سوى لحظات فرح عابرة ، هذه هي الحالة الإنسانية (مأساة) ، لانهاية لها
... والشعور بالخوف من حوادث الدنيا مهلكة لصاحبه ، هل تعلم أخي الكريم أن سرعة الغزال تبلغ 90 كم.س ، بينما تبلغ سرعة الأسد 58 كم.س ، ورغم ذلك يسقط الغزال غالبا فريسة للأسد ! ، أتعرف لماذا ، إنه شعور الغزال بالخوف وأن الموت سيكون مصيره ، تلك الإلتفاتات التي يرسلها للخلف وهو يركض ، لينظر لأي مدى دنا الموت منه ! ، ليتنا ندرك كم من الإلتفاتات للماضي إفترستنا ، وفوتت علينا من الفرص الكثير !
... ويؤكد (إميل سيوران) ، أننا لانركُضُ نحو الموت ، نحن نفرّ من كارثة الولادة ، ونتخبّط مثل ناجين يحاولون نسيانها ، ليس الخوف من الموت سوى إسقاط على المستقبل لخوفٍ آتٍ من لحظتنا الأولى ، فيصعبُ علينا طبعاً أن نعتبر الولادةَ نكبة ، ألم يُرسَّخْ فينا أنّها النعمةُ الأولى وأنّ الأسوأ كامنٌ في نهاية مسيرتنا لافي بدايتها ؟! ، إلاّ أنّ الشرّ ، الشرّ الحقيقيّ ، يكمن خلفنا لاأمامنا
... ومن فلسفتي في الحياة أنه تبدو مهمّة الإنسان الوحيدة في الدنيا محاولة التوازن في المشاعر والسلوك والميل للوسطية ، بينما تؤرجحه الحياة والأحداث والرّغبات والعمر مابين الإهمال أحيانا والجنوح أحيانا ، ولو سألنا الفلاسفة ماهي مهمة الإنسان في الحياة قالوا وبعدمية لامتناهية :
.. (سيوران) لاشئ ، هكذا أجابوا الأدباء عندما سؤلوا عن مهمة الإنسان
.. (نيتشه) أن يضحي بنفسه لأجل أن تقطع البشرية خطوة تجاه الإنسان الأعلى
.. (أفلاطون) أن يتحرر من كثافة المادة ، لأجل أن تلتحق روحه بكونها جوهرة بمدارات الكمال الإلٱهي
.. (سارتر) أن ينقذ نفسه من عبثية اللامعنى والصدفة ، بأن يختار قدره
.. (اغسطينوس) أن يعمل بكونه أشرف المخلوقات ولا أحد يستطيع أن يحل محله لأنه إمتداد لروح الله
.. (كارل يونغ) أن يعرف نفسه ، كل الشر كامن في مايجهله عن نفسه
.. (سيوران) أن يحدق في عيون الموت الباردة لأجل الخلاص من سنوات الإحتضار
.. (البير كامو) أدركت أن المرء حين يعمل ويحب ويتألم ويعاني فإنما يعيش بالفعل ، عندها يمكننا القول بأن الإنسان يملك حياة ويختبرها بشكل كامل
.. (سينيكا) يولد الناس متساوين ، لكنهم يتفاوتون في الحظوظ والممتلكات ، ثم يعيدهم الموت إلى مربع المساواة
... وفاجأتنا وجهة نظر (محمد الماغوط) المفكر الفيلسوف السوري ؟! فيما قاله في كتابه (سأخون وطني) عن فلسفته في الموت والحياة ، من (الغباء) أن أدافع عن وطن لاأملك فيه بيتاً ، من (الغباء) أن أضحّي بنفسي ليعيش أطفالي من بعدي مشردين ، من (الغباء) أن تُثكل أمي بفقدي وهي لاتعلم لماذا مت ، من (العار) أن أترك زوجتي فريسة للكلاب من بعدي ، (الوطن) حيث تتوفر لي مقومات الحياة ، لامسببات الموت ، و (الإنتماء) كذبة إخترعها الساسة لنموت من أجلهم ! ، لا أؤمن ب (الموت) من أجل الوطن ، الوطن لايخسر أبداً ، نحن الخاسرون
، عندما (يُبتلى) الوطن بالحرب ينادون (الفقراء) ليدافعوا عنه ، وعندما تنتهي الحرب ينادون (الأغنياء) ليتقاسموا الغنائم ، في وطني تمتليء (صدور) الأبطال بالرصاص ، وتمتليء (بطون) الخونة بالأموال ، و (يموت) من لايستحق الموت على يد من لايستحق الحياة
... في الطب الشرعي عندما يتم فحص الإنسان الذي مات بسبب نزيف نتيجة طعنة سكين مثلاً بعيدا تماما عن القلب ، نجد أن غلاف القلب مجروح أيضا وينزف الدم ، والسبب غريب جدا ! ، عندما يشارف الإنسان على الموت في تلك الحالة وفي آخر لحظات حياته ولم يبق في القلب غير القليل من الدم يقوم القلب بالإنقباض بقوة شديدة لأجل أن يخرج الدم إلى الدماغ في محاولة يائسة منه لإنقاذ الدماغ ، ومن شدّة الإنقباض يقوم بإيذاء نفسه ، تماما كما يحدث في حياتنا الواقعية نتيجة فلسفة غير منطقية ، نجرح قلوبنا وندوس على عواطفنا في سبيل إرضاء عقولنا ، ومثلما يموت الإنسان في عالم الطب لأجل المحاولة البائسة ، نموت أحياناً إنسانياً ونفسياً وروحيا عندما نقرّر أن ندوس على القلب في سبيل مانظن أنه العقل والمنطق والحكمة !
... وفي فلسفة الموت والحياة في كتاب (الجريمة والعقاب) ! ضرب (دوستويفسكي) مثلاً واقعيا عن الشخص الخائف من الموت ، وقال بأنه لو أتيح له أن يعيش مدى الحياة على قمة عالية لايتسع له فيها سوى موضع قدم ، لفضَّل هذه الحياة مائة مرة على الموت ، وقال عن المحكوم عليه بالإعدام ، أنه حين يُساق إلى ساحة القصاص على متن عربة ، فإنه يتمنى أن تطول المسافة بينه وبين ساحة القصاص ولو شبراً واحداً ، حتى إذا ماأصبح يقترب من مكان الإعدام ، أخذ يطمئن نفسه بأن مايزال هناك مسافة شارع أوشارعين من مكان موته ، فهو يظل مقتنع حتى اللحظة الأخيرة ، بأن ضربة من ضربات القدر ستخلصه في النهاية من حبل المشنقة ، فرغم أن حياة هذا الإنسان في الواقع مليئة بصنوف العذاب والشقاء ، إلا أنه يفضل هذا العذاب والشقاء على أن يصبح جثة هامدة ، فهل الإنسان حقاً (عدو ما يجهل) ؟! ، أم أن هناك (أسباب أخرى) لحب الحياة وكراهية الموت ؟!
... وللإجابة ، إلى لقاء في الجزء الخامس إن قدر لنا ذلك وقدرت لنا الحياة
... تحياتي ...
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق