جلست كعادتي في نفس المكان ،كما كنت أفعل كل مساء أحتسي كأس الشّاي في نفس المقهى ، يأتي به النادل كما تعوّد كل يومٍ بدون أن يسأل ماذا أريد أن أشرب ، بعيدا عن صخب رواد المقهى و رائحة دخان سجائرهم ، أجلس وحيدًا في مكانٍ هادئٍ أحرِِّك قطعة السُّكرِ لتذوبَ فيهِ فأذوبُ معهَا في سُهَامِي و تستحيل مخيِْلتِي كَكِتابٍ صفحاتُهُ من ماءٍ أُُبحِرُ في أعماقِ أعماقِي ، و أبتسم أحيانًا بدونِ أن أشعرَ فَتُوقِظنِي من غفوتي همساتُ بعضِ الجالسينَ قُبالَتِي و كأنَّنِي أسمعُ وَشْوَشَاتِهِمْ و ألاحظ إبتساماتِ سخريةِ أحدِهم ، فلا أهتم و لا أبالي ، لأنني عندما أكون خاليًا مع نفسي أحذِفُ وجودَ كلِّ الحاضرينَ ، فيصبحُ لا فرق بينه و بين العدَمِ ، ثم أرتشِف الشاي الدافئ رشفات قد أضافت إليها حباتُ السّكر طعمًا جميلاً و رونقًا ، فأُسافرُ من جديدٍ .. بعيدًا و كأنني أمتطي قطارًا قديمًا يشقُْ غبارَ الطريقِ و في كل رحلةٍ يتوقف قليلاً في محطة من محطاتِ الذكرياتِ ،فتصعدُ أشخاصًا تحيِي ذاكرةً جديدةً و تنزلُ أشخاصًا لتدخلَ طيَّ النسيانِ من مخيلتِي تمحوها الأيامُ و هكذا ... إلى آخر رشفةٍ من كأسي أستفيق و أنظر حولي فأجمعُ ما تبقّى مني من شَتَاتٍ كطفلٍ صغيرٍ يجمع أدباشه بعد نهاية كل حصةِ درس و أخرج و قد زالت كل شواغلي كما يخرج هذا الطفل من المدرسة .
✍️ محمد آبو ياسين / تونس
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق