لم يكن محفوظ يستوعب بشكل واضح لماذا تُحمِّله أمه تحقيق هذه الأمنية ، فقط كان يفهم أمرا واحدا ألا وهو أنها تحبه كثيرا وتأخذه معها في كل زياراتها لبيوت عائلتها أو عائلة أبيه
عاش محفوظ سنواته التسع الأولى يقطع المسافة من منطقته الشعبية إلى منطقة السرايات حيث القصور والفيلات الفخمة ذات الحدائق الواسعة التي توحي للعابرين قدر مايعيش أصحابها من ترف وهدوء وجمال ، فكل قصر أو فيلا يتميز بشيء ما عن غيره مما يحيط به ،وبذات الوقت يتميز بألف شيء عن البيوت التي بمنطقة محفوظ ، كان محفوظ يحب كثيرا السير إلى هذه المنطقة ليُمتع ناظريه بهذه اللوحات الساحرة ، في منطقته لايجد سوى الشوارع الترابية والبيوت غير المتناسقة بواجهاتها العادية بل وتشبه الملابس المتسخة ، لذلك كان يرى أن أمنية أمه إن استطاع أن يحققها ربما يستطيع وقتها أن يعيش حياة كهذه ، ولما لا .
وتشاء الأقدار أن تكون مدرسة محفوظ الابتدائية في أحد فيلات هذه المنطقة الراقية ، وبدلا من المجيء إلى هنا فقط مرة أو مرتين كلما استطاع الهروب من البيت ، صار يأتي كل يوم ، حتى أنه حفظ كل قصر وفيلا هنا بما يحويه من جمال واختلاف عن غيره ، الزهور بكل أشكالها وألوانها وعطورها ، التنسيق البديع ، روعة الأبنية وبساطتها واتساعها ، وكانت له هنا بلكونة شاسعة بالدور الثاني بأحد القصور تمتليء بالزهور والطيور الملونة ، كم تمنى لو يجلس فيها لحظات فيكتب موضوع تعبير عن المكان وسحره
كل هذا الجمال كان أحد العوامل المهمة التي جعلت محفوظ يحافظ على المداومة لمدرسته ، وكيف يحرم نفسه يوما ما من السير بين هذه الحدائق وهذه العطور وأصوات العصافير والشوارع المسفلة والنظيفة والهادئة
وزاد من جمال هذه المنطقة بنفس محفوظ أنه كثيرا ماكان يصادف الفنانيين وهم يصورون أفلامهم فيها ، فزاده هذا انبهارا بالمنطقة وحافظ على السير فيها أكثر وأكثر ، فكم وقف يتابعهم وهم يمثلون الكثير من مشاهد الأفلام ، وكانت سعادته كبيرة وهو يرى كل من كان يحبهم ويسمع عنهم ويراهم بالسينما مع أخته الكبيرة التي كانت تحرص على اصطحابه معها للسينما ، أو على شاشة التلفاز الوحيد عند خاله الكبير
.. وغدا نعود مع ( ابن عزيزة وزغلول ..
.. محفوظ بهلول البربري 5 )
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق