بقلم: ماهر اللطيف
لوران فتاة فلسطينية وُلدت في أمريكا، من أب مسيحي فلسطيني وأم يهودية أمريكية. عادت إلى الضفة الغربية قبل الحرب بسنوات، واستقرت هناك، عملت ملحقةً ثقافيةً للسفارة الأمريكية في «القدس».
فاتنة، شديدة الجمال والقوام، تجاوزت الثلاثين من عمرها. فقدت والدها غدراً على يد العدو أثناء إحدى مداهماته العشوائية: اعتُقل، عُذّب، نُكّل به حتى فارق الحياة بعدما فشل جسده في تحمل ما حلّ به. أما الأم، فكانت ذراعًا من أذرع العدو في الضفة، مدافعة عنه، جاسوسة من بين أشهر الجواسيس هناك.
مع ذلك كانت لوران تحمل حبًا شديدًا لفلسطين — رغم قصر إقامتها فيها — تعتنق اليهودية كشريعة، تختلط بالفلسطينيين، تدرك غطرسة العدو ووحشيته، تجرده من إنسانيته، وانقلابه على كل اتفاق أو ميثاق قبل أن يتنكر له.
حين اندلعت الحرب منذ شهر، اتصلت بها الجهات الأمنية «الشاباك» وعرضت عليها التجنيد للعمل لصالحهم طوال فترة القتال. وعدوها بتدريبٍ عسكريٍ سريّ سريعٍ لتمكينها من الدفاع عن نفسها وقت الحاجة، وبأن تكون عينًا فعالة في غزة وأماكن «تطهيرها» مما سمّوه «إرهاب» حماس ،أن تكون مرشدةً إلى أماكن تواجد «قتلة النساء والأطفال والمواطنين» كما زعموا.
رفضت في البداية، مؤمنةً بأن هذا عمل خيانةٍ عظمى للوطن ولروح والدها؛ لكنها رضخت لاحقًا بعد تفكيرٍ عميق: خشيت أن يجندوا غيرها في مكانها، فيساعد العدو على تنفيذ إبادةٍ جماعية بلا رحمة.
لبست ثياب الفلسطينيين الممزقة والقديمة، وتوجّهت إلى غزة. التحمت بالغزاويين، تبنت قضيتهم — أو تظاهرت بذلك بوصفها في مهمّة رسمية — صاحت ، بكت ، تعرّت، جاعت، عطشت، تشردت مثلهم جميعا؛ تعرفت إلى كثيرين منهم وفقدت الكثير يومًا بعد يوم.
لكن بعض الناس شكّوا فيها. أخطروا المقاتلين؛ حاصروها ونصبوا لها كمائن، وخطفوها فجأة في غفلة من الجنود الذين راقبوها. وضعوها في مكتبٍ بسردابٍ من سراديب غزة. رحّبوا بها، أعطوها ماءً وطعامًا، عاملوها حسناً حتى جاء رجلٌ ملثم، مرتدٍ ثوبًا أسود من رأسه إلى قدمه، جلس مقابلها، وأطلق السلام:
— أنتِ في أمان، لا تخافي. نحن نحترم أسرانا.
(بلكنتها العربية الغريبة) — أنا فلسطينية مثلكم، أقاسمكم الخير والشر وكل الظروف.
(ابتسامة، والعينان نحو الأرض) — لقد رصدناكِ، ابنتي. ضبطناك تدخلين مقرات العدو، تتحدثين إلى الجنود، تحملين واقي صدرٍ وأسلحة العدو.
(شعرت بالخطر) — انتظر أيها القائد، سأعترف بكل شيء شرط أن تساعدني في إتمام هدفي.
شرعت تحكي من الولادة إلى العودة إلى فلسطين، قتل الأب ،تجنيد الأم، ثم نفسها. أقسمت أنها لم تعطهم أي معلومات صحيحة؛ كانت تختلق الحكايات، ترشدهم إلى أماكن وهمية وتضللهم. كانت تكرههم، وتشتهي القصاص لقتلهم والدها الذي كان كل عالمها.
بكاء شديد يرهقها،ماض أليم يحضرها،قالت:
«كان أبي يردد، وكأن صوته نقش في روحي: "فلسطين ليست مجرد وطن، إنها الكون الذي يضمنا، الوجود الذي يعرّفنا، الجنة التي نحلم بها وسط أوجاعنا." ثم كان يُضيف بنبرة يكسوها الحزن: "في أمريكا، نحن مجرد ظلال بلا جذور، غرباء في أرض لا تعترف بنا. سنعود يومًا إلى القدس، لنحررها، حتى لو كان موتي هو الثمن." كل كلمة كانت كجرح مفتوح، يذكرني أنني عالقة بين عالمين، أحدهما يحتضنني والآخر ينكرني.»
لم يصدقها المقاتل، لكنه بحث في أمرها مع أعرافه. بعد تحقيقٍ اتُّفق عليه، أُطلق سراحها. صارت لوران رمزًاٍ للوفاء والصدق والوطنية.
في البداية اعتنقت الإسلام تماشيًا مع المحيط، وأنزلت بالعدو ما لا يحصى من المكائد: استدرجت قواتٍ مسلّحة إلى أماكنٍ مفخخة بذريعة وجود أسرى؛ ثمّ وثّقت تجاوزات العدو وبثّت الفيديوهات إلى وسائل الإعلام العالمية؛ قتلت الجنود فروًا كلما سنحت الفرصة؛ ثم انقلبت على كل حديثٍ مع العدو، ارتدت الحجاب، تزوّجت مجاهدًا، وتنكّرت لأصولها وقطعت كل صلاتها بالعالم الذي نشأت فيه.
نقمت على الصهاينة نقمةً شديدة. أذاقتهم ويلات النيران التي أذاقوها أهلها: كان قصاصها الذي استطاعت، بدعم المقاومة، جزاءً لما حلّ بهم. كانت تبكي فرحا وهي تطيح بالطغاة،تقفز عاليا وتقول "هذه عدالة السماء، هذه هدية لأرواح الشهداء الذين ماتوا وهم يحررون وطنهم من براثن مستعمر وحشي محمي من عالم أشد وحشية ،حيادية ،ظلما لن يتركه الله يمر دون عقاب".
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق