بقلم: ماهر اللطيف 🇹🇳
تحرّكاته محدودة، ومحلّ إقامته غير معلوم، يتغيّر يوميًّا أكثر من مرّة عند الحاجة أحيانًا. لا يخالط كثيرًا من الناس، يرتدي كمّامة وواقياً للوجه، ونظّاراتٍ شمسيةً حتى في الليل. يغطي رأسه باستمرار كلما كان في مكانٍ يكثر فيه البشر، ويحتاط من الجميع، حتى من نفسه حين يتعاطى المخدّرات أو المسكرات.
تغيّرت حياته رأسًا على عقب منذ سنوات، حين انكشف أمر إجرامه، وتتالت الأحكام القضائية الصادرة ضدّه. هجر أهله ومعظم البشر كيلا يقع في قبضة الشرطة التي ضيّقت عليه الطرق والسبل، وجعلته يعيش مع الحيوانات في الغابات والكهوف، ومع المجرمين في قنوات الصرف الصحي والأماكن المهجورة، وفوق السطوح وغيرها من الأمكنة غير الإنسانية.
قصد وسط المدينة فجرًا، ملثّمًا متنكّرًا، يتسلّل بين الناس، ناظرًا يمينًا ويسارًا، بغية الوصول إلى بائع الأقراص المخدّرة الذي سيمدّه بكمّية كبيرة هذا اليوم، على أن يدفع ثمن البضاعة لاحقًا ككلّ مرة. ولم يكن يعلم أنّ هذه العملية مكيدة دبّرتها له فرقة مختصّة في مكافحة المخدّرات بالاستعانة بذلك «المجرم» الذي أبدى تعاونًا غير مشروط.
تقدّم خطواتٍ وهو يتفحّص ويدقّق في كلّ صغيرة وكبيرة، وقد بدأت الشمس بالشروق، والحياة تزهر بورقات يومها الجديد، وتتكاثر السيارات والمترجّلون، ويعمّ الضجيج هنا وهناك.
فجأة، لاحظ حركة غير عادية في محيط المكان: انتشار سيارات الشرطة في كل طريق ومفترق، ووجود أعوان كثر بالزيّ وبدونه يقفون جنبًا إلى جنب مع زملائهم ليحاصروا الرقعة الجغرافية. ورأى المروّج من بعيد يشير إليه بيده ويناديه ليلتحق به، فيما كانت جموع الناس تحاصره من كلّ مكان، وقد تأكّد أنّهم أعوان الأمن.
تسمّر في مكانه، احمرّ وجهه، وتضاعفت نبضات قلبه. أيقن أنّه وقع في فخّ الأمن وأنّ «صديقه» تلاعب به. اسودّت الدنيا في وجهه، وازرقّ ضوء الشمس حتى بدا كأنّ النهار انقلب غسقًا، وأضاءت كلّ شبرٍ من المدينة. استرقّ النظر من كلّ جهة قبل أن يطلق رجليه للريح، جريًا في اتجاه زقاقٍ طويلٍ لم ير فيه عنصرًا من عناصر الشرطة.
لم يُصغِ إلى الأصوات المتعالية التي تحذّره من مغبّة فعله وأنّه سيدفع الفاتورة غاليًا ما دام المكان كلّه محاصرًا. واصل الجري ومسابقة الريح إلى وجهةٍ غير معلومة. تعب، وأصبح التنفّس عسيرًا، لكنه لم يتوقّف، إذ كان يسمع وقع أقدامٍ تقتفي أثره وتأمره بالتوقّف.
بقي كذلك زمنًا إلى أن بلغ حيًّا شعبيًّا في أطراف المدينة، ولجه بسرعةٍ بحثًا عن مكانٍ آمن، فيما كانت قوّات الأمن تتابعه عن كثب، إلى أن شاهد زريبةً، ارتمى فيها بغتةً، وكانت ممتلئة بالأغنام والأبقار. فتّش بعينيه عن أيّ شيءٍ يحتمي به فلم يجد في أوّل وهلة، قبل أن يرى جلدًا من جلود الأغنام، فغطّى به ظهره وتوسّط القطيع حتى بات مثلهم يصعب التفطّن إليه، كما كان يظنّ.
تاه عن أعوان الأمن بهذه الحركة المفاجئة بادئ الأمر، لكنّهم فتّشوا الحيّ تفتيشًا شاملًا، إلى أن دخلوا الزريبة مع صاحبها. قلّبوا المكان جيّدًا ولم يعثروا على شيء، وكادوا أن يغادروا الحظيرة حين لمح أحد الأعوان حذاءً رياضيًا بين الأغنام، وكبشًا غريب الجسد والقوام. أشار إلى قائده بمكان وجود المشتبه به دون أن يتكلّم. ضحك الجميع ضحكاتٍ صامتةً بعد أن انبهروا بهذه الفكرة "الذكية"، وحوصِر المكان في انتظار إشارة الهجوم للقبض على المجرم الذي أتعبهم سنواتٍ طويلة.
في الأثناء، كان «الفارّ» يردّد: «اللهم اجعل كيدهم في نحورهم، اللهم إني أعوذ بك من شرورهم، واجعل تدبيرهم في تدميرهم». ثم تذكّر كيف كانت أمّه تنصحه وترشده وتحاول ثنيه عن اتّباع شهواته وطاعته العمياء لنفسه الأمّارة بالسوء، لكنه كان يتأفّف منها، يسبّها وينهرها ويتركها ويهرب. وها هو اليوم محاصرٌ لا يعلم إن كان سينجو أو يقع في أيدي الذين لا يرحمون، فتنفّذ دعوات أمّه التي يئست منه وباتت تدعو عليه ليلًا نهارًا.
التفت قائد الشرطة إلى الفلّاح بعد أن غمزه وأشار إليه أن يتّبع قوله وعمله للإطاحة بالمجرم دون مقاومة أو عنف محتمل:
بما أننا لم نعثر على غايتنا، ما رأيك أن تبيعني كبشًا لعيد الأضحى الذي اقترب، بسعرٍ مناسب؟
(الفلاح متلعثمًا، لا يعلم ما يقول) اختر ما شئت أيها القائد، إنها هدية مني إليك.
(بكلّ ثقةٍ في النفس) بارك الله فيك أيها الشهم، سأختار أحدهم، لكن بمقابل. فلست من أعتدي على الناس وممتلكاتهم، أنا في خدمتهم لا العكس. (يشير له بمرافقته لتفقّد القطيع كبشًا كبشًا).
(مصدوماً ما إن شاهد المجرم بين القطيع) ما هذا؟!
(وضع القائد يده بقوةٍ على فم الفلاح حتى لا يفضح الأمر...)
أشار القائد إلى ذلك الكبش – المجرم المفتّش عنه – ووكزه بعصاه على ظهره ثم مؤخرته، فعوى عواء الذئب، مما جعل الجميع يقهقهون ويتنمّرون ويسخرون من المشهد، والقائد يقول :
«أول مرة أرى كبشًا يعوي بدل البعبعة!»
فتمّ القبض على المجرم بسلاسة، وسُمّي منذ ذلك المشهد بـ«الكبش العاوي»، تسمية التصقت به بين الجميع إلى أن مات بعد سنوات في زنزانة السجن، بعد أن اجتاحت جسده الأمراض والعلل المختلفة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق