لم تكن الطيش بالنسبة إليها سوى خفّة روح، وضحكاتٍ لا تقف عند حدود، وقراراتٍ تتّخذها في لحظة مزاج مرتفع. لم تُحبّ التعليم يوماً؛ جلست على مقاعد الدراسة بجسدها فقط، أمّا عقلها فكان يحلّق في السماوات البعيدة. ومع ذلك بلغت المرحلة الثانوية، راضيةً بأنها أدّت ما يكفي، وبأنّ الحياة أوسع من الكتب والدفاتر.
وفي عمر الثامنة عشرة، طرق النصيب بابها. رجل هادئ الطباع، خلوق، لم يكن متطلباً ولا متكبّراً. أحبّ فيها بساطتها وابتسامتها الدائمة، وتزوّجها ليمنحها حياةً تليق بها. فتح لها أبواب الراحة، وأغدق عليها العطف، وأحسن إليها كما لم تفعل الحياة من قبل. وكانت أحلام سعيدة… أو هكذا ظنّت.
لكن طيشها القديم لم يغادرها، بل تمدّد داخل قلبها مع كل يوم جديد. لم تعرف فنّ التوازن في الزواج، ولم تتقن الصبر الهادئ الذي تحتاجه البيوت. كانت قراراتها الحادّة واندفاعها المتكرر يزرعان في العلاقة صداعاً دائماً، كأنها تسير فوق خيوطٍ رفيعة على شفا هاوية.
ثم جاءت طفلتها الأولى، فكانت نعمةً لم تعرف كيف تحافظ عليها. كانت أحلام أصغر من أن تُمسك زمام بيت، وأصغر من أن تُصبح أمّاً، وأصغر من أن تفهم أن الحب وحده لا يكفي. وبين نار المسؤولية وضعف الخبرة، تفكك الزواج في هدوءٍ يشبه انطفاء شمعة. انفصلت، وسلّمت طفلتها إلى حضن أمها، وقالت لنفسها: “سأعود يوماً أقوى.”
لكن الأيام لم تمنحها القوة، بل اقتادتها إلى طريقٍ لم يسبق أن تخيّلته.
ابتعدت عن أهلها شيئاً فشيئاً، ليس كرهاً، بل هروباً من نظرات الشفقة والأسى، وهروباً من مواجهة ذلك السؤال الذي كان ينهشها كلما رأت ابنتها: هل أنا أمّ سيئة؟
ومع الفراغ الذي بدأ يلتهم أيامها، كان ملاذها الوحيد شاشة صغيرة مضيئة تحمل إلى العالم كل ما تريد قوله… وكل ما لا تريد قوله. دخلت عالم مواقع التواصل الاجتماعي بلا هدفٍ سوى ملء الوقت، ثم قررت أن تجرب الغناء والرقص في مقاطع عفوية. لم تتوقع أن يشاهدها أحد، لكنها في أيام قليلة وجدت نفسها في قلب الضوء.
ضحكتها الطفولية، جرأتها التي لم تكن تعرف أنها مثيرة للانتباه، صراحتها في الحديث، كلها صنعت منها “ملكة الترند”. كانت المقاطع تنتشر كالنار في الهشيم، والناس يتابعونها كأنهم اكتشفوا كنزاً مسلياً.
زاد عدد المتابعين، وزاد الإعجاب، وبدأت العروض تتهاطل عليها: إعلانات، مشاركات، هدايا، عقود بثّ مباشر. بدت أحلام وكأنها أخيراً وجدت الطريق الذي يفهمها، الطريق الذي لا يلومها ولا يعاتبها.
لكن مع كل صعودٍ مفاجئ، تسلّل السقوط من بابٍ آخر.
لم تعد تزور أهلها إلا نادراً، ولم تعد ترى ابنتها إلا لماماً. كان الهاتف يسرقها منهم، وكان “الترند” يمنحها شعوراً زائفاً بأن العالم كله يحتاجها الآن. ومع كل فيديو جديد، كانت تخسر شيئاً من عمقها القديم، من حيائها، من قيم تربّت عليها يوماً، من صفاء روحها الأولى.
كانت لديها مئات الآلاف من المتابعين… لكن لا أحد منهم يعرفها.
كانت تملك الشهرة… لكنها فقدت العائلة.
كانت تضحك أمام الكاميرا… لكنها تبكي خلفها.
ومع الوقت، بدأ الذين يقتربون منها لا يريدون منها سوى منفعة. كل علاقة جديدة كانت تنتهي بخذلان، وكل صداقة تفتح قلبها لها تُغلق الباب بعد أن تأخذ ما تريد. اختلطت خطواتها في عالمٍ لا يعترف إلا بالسطح، وازداد عدد “المعجبين” كلما قلّ عدد البشر الحقيقيين في حياتها.
تعدّدت علاقاتها، وتقلّبت مشاعرها، وظنّت أن قلبها قادر على أن يبدأ من جديد في كل مرة. لكن الحقيقة كانت أنها تتمزق من الداخل، وأن كل خطوة إلى الأمام كانت تُبعدها أكثر عن طفلتها، عن أمها، عن ذلك البيت الدافئ الذي كان الملاذ الوحيد الحقيقي في حياتها.
صارت لياليها ضجيجاً لا يهدأ. هواتف، إضاءات، اتفاقيات، بثّ مباشر، صراخ متابعين يطلبون منها المزيد.
وصار نهارها صمتاً خانقاً لا يتحمله قلب بشري.
كانت تشعر بأنها فارغة من الداخل، كبيتٍ جميل الغلاف بلا أثاث.
ومع أنّ نجاحها الرقمي كان في أوجه، بدأت تتساءل في لحظات وحدتها:
“هل كنت سأصبح هكذا لو بقيت زوجة وأماً؟”
“هل كان الترند يستحق أن أفقد ابنتي؟”
“هل يعرف أحدٌ أنني أعود كل ليلة إلى سريرٍ باردٍ لا يشاركني فيه أحد؟”
لكنها لم تعترف بهذا لأحد. كانت الكاميرا أكبر قناع في حياتها.
كانت تُضحك الآخرين بينما تنهار من الداخل.
كانت تكذب السعادة على جمهورٍ لا يعرف أنها تموت ببطء.
وجاءت النهاية كما تأتي النهايات التي تُكتب على أبواب الغفلة.
ليلةٌ طويلة كانت تستعد فيها لتصوير بثّ مباشر مهم، أعلنت عنه طوال اليوم. الإضاءة جاهزة، الماكياج كامل، الهاتف مشحون، الموسيقى مختارة. لكن شيئاً في داخلها كان مضطرباً… صوتٌ خافتٌ يهمس:
“إلى متى؟
قبل البثّ بدقائق، نظرت في المرآة طويلاً.
رأت وجهها، لكنه بدا غريباً.
رأت عينيها، فلمعت فيهما الدموع.
ثم سمعت صدى سؤالٍ واحدٍ يضرب رأسها:
“من أنا؟
أطفأت الإضاءة فجأة.
ثم أغلقت الهاتف.
وبدأت تبكي… تبكي كما لم تبكِ منذ سنوات.
وفي ذروة انهيارها، تذكرت طفلتها: ضحكتها، رائحتها، يدها الصغيرة التي كانت تمسك بها. شعرت بأن العالم كله يتداعى فوقها، وأن كل ما فعلته لم يكن سوى محاولة بائسة للهروب من نفسها.
اتصلت بأمها. كان صوتها يرتجف:
“أمي… هل ابنتي نائمة؟”
“نعم يا أحلام، لما تسألين؟”
“أريد رؤيتها… الآن.”
لكن الطريق بين البيت الذي تهرب منه والبيت الذي تحتاجه كان أطول من مسافةٍ تُقطع بالسيارة. كان طريقاً يمرّ عبر سنوات من الأخطاء، من الندم، من الوحدة.
في تلك الليلة، قبل أن تصل إلى بيت أمها، كانت النهاية تنتظرها في منتصف الطريق.
حادث سير مفاجئ، اصطدام، صراخ، تحطّم زجاج… ثم صمت.
وعندما وصلت سيارات الإسعاف، كانت أحلام بين الحياة والموت، تمسك بآخر أنفاسها وتهمس بكلمة واحدة:
“ابنتي
ثم رحلت.
وفي اليوم التالي، امتلأت مواقع التواصل بالخبر:
“وفاة صانعة المحتوى أحلام في حادث مروّع.”
وتحوّل اسمها مرة أخرى إلى ترند…
لكن الترند هذه المرة لم يمنحها شيئاً.
لم يصفّق لها أحد.
لم يطلب أحدٌ منها رقصة جديدة.
لم يُعلّق أحدٌ على ضحكتها أو على جرأتها.
بل كتب الناس كلماتٍ عابرة، ثم مضوا يمارسون حياتهم، تاركين خلفهم فتاةً كانت تعتقد أن الشهرة معنى الحياة.
أما الأم، فكانت تقف بجانب سرير الحفيدة الصغيرة، تبكي بصمت وتضمّ الطفلة إلى صدرها كأنها آخر ما تبقّى من روح أحلام.
وهكذا انتهت قصة فتاةٍ كسبت الترند… لكنها خسرت نفسها.
لم تدرك أن الشهرة التي تأتي بلا وعي تأخذ أكثر مما تمنح، وأن الضوء حين يكون زائفاً يحرق أقرب مما يضيء.
ولم يبقَ من حكايتها سوى درسٍ مرير:
ليس كل بريقٍ نعمة، وليس كل تصفيقٍ حباً،
وليس كل شهرةٍ حياة.
الكاتب سامي المجبري
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق