.............................
أيام الأبيض والأسود ولّت
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
إن من يمارس حق الوصاية على القلم ليس له وجود حقيقة.. فالذي يمسك القلم ويطلق العنان ليقطف ما طاب له من ثمار الإبداع في بستان وجدانه لن يحتاج لمن يريه أي الثمار أينع وأي الأشجار أنفع.. فالانطلاق من الذات ليس له حدود.. ولكن أي ذات؟ بل ربما ينبثق تساؤل آخر مفاده: ماهي علاقة التجديد بالتمرد؟ وهل كل تمرد تجديد؟ أم أن كل تجديد تمرد؟
في حقيقة الأمر ليس من السهل الحصول على إجابة شافية لكل هذه التساؤلات.. لأن الإجابة بنعم أو بلا ستكون بلا شك ناقصة وإن وجدت التبريرات.. أيضا وجود منفذ ثالث بين الإجابتين سيسلك دهاليز متشابكة قد تجعل المرء يفضل إحدى الإجابتين مهما كانت النتائج كمن يخير أن يسير إلى الجحيم أو إلى الجليد فيختار أحد الدربين ويترك سبيلا ثالثا وعرا غير معلوم المآل.. لكن الحقيقة التي لا مناص منها أن أيام الأسود والأبيض ولت إلى غير رجعة.. وكل من يحاول أن ينفي ذلك سيجد نفسه يمخر عباب بحر من الرمال المتحركة.. الواقع الذي يفرض نفسه الآن لا ينتظر تغييرا من أحد.. كما أنه ليس بحاجة لتبجيل.. الواقع يجلس أمامنا الآن ليستمع ويرى ثم يمضي بعد أن استنشق أبخرة غير بادية للناظرين.. أما نحن فلا نملك إلا أن نماشيه وفي نفس الوقت نملك أن نجلس ونستمع ونمضي.. فهذه خصائص سجينا عليها.. وليقف جميع الشعراء وليحلموا بأنهم فوق أو تحت الواقع.. من يستطيع أن ينكر عليهم ذلك؟ المجتمع لم يصنع نفسه.. المجتمع عبارة عن تراكم...
ولنترك كل هذا الحديث والذي لن يأخذ سوى زمنا من عمرنا لنقول أن الجديد لم يعد جديدا والحداثة قد اندثرت وأن ما بعد الحداثة هي الفضاء الرحب الذي يحلق فيه الجميع.. فهي تتجاوز كل الأنماط القديمة والحديثة.. السائدة منها والبائدة.. وهذا ما يلوح له (ليوتار) الذي يؤكد بأن الحداثة هي مجرد تتابع زمني.. وأن ما بعد الحداثة هو تمهيد لقيام مجتمعات جديدة ترتكز على أسس جديدة غير تلك التي عرفها المجتمع الحديث .. إن الطريق الذي تسلكه مابعد الحداثة هو اختصار .. بل هو طريق فرعي يقطع كل الطرق القديمة والحديثة ليحلّق صوب الحقيقة..الاتجاه الآن إلى التفكير ومحاولة التفسير.. أقول محاولة وأعني بذلك أنه ليس بالضرورة الوصول إلى تفسير علمي رياضي للأشياء الملموسة.. وبالمقابل محاولة الوصول إلى معادلات المعنى.. الآن تتجه العقول والألباب إلى تجاوز العالم المادي إلى عالم ما بعد الآلة.. عالم تحلق فيه الأرواح .. تصفو فيه النفوس.. تذيب الكتل التي صنعتها النمطية والأيدلوجية البائسة .. كل آراء المفكرين والمبدعين هي لخدمة الإنسان.. لكن ثمة منها سيفا مسلطا على الرقاب وأداة لكوارث لا تنتهي.. صحيح أن الإنسان بشر وعندما ينزل لمستواه البشري فإنه يدور في فلك مقفل حتى يدور دورته التي يحش فيها كل المدارات الملامسة لفلكه.. لكن ارتقاءه إلى رحاب إنسانيته يخلصه من ربكة المصطلحات الضيقة.. المصطلحات غير المتزحزحة .. ليرنو إلى فسحة النقاء.. يتجرد من الزمان والمكان .. ينظر إلى هذا العالم السابح.. لينشئ علاقات بين الأشياء تخلق نصا عميق البنية ولا ينتظر أن يقابل بالشبق.. لكنه حتما سيرى العالم من خلال ذلك الطاقم الذي نسجه برؤاه الخفية .
>>>>>>>>>>>>>>>>
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق