(التنمية المستدامة , جذور إشكاليات وحلول)
رماز الأعرج
(الحلقة السابعة)
ب : أسباب الحروب وجذورها العميقة
حروب ما قبل التاريخ
اشرنا في نقطة سالفة حول تاريخ الحروب إلى نقطة حساسة وهامة , وهي أن التاريخ البشري ما قبل التاريخ لم يحتوي على أي اثر ملموسة تشير إلي وجود الحروب التقليدية والجيوش والعنف الاجتماعي كظاهرة منتشرة , كما هو الحال في العصور المتقدمة , ولكن هذا لم يعفي من جود ظاهرة العنف بين الناس ما قبل ذلك العصر أي العصور الغارقة في القدم , ولم تنشأ الحروب التقليدية و الجيوش فجأة بدون مقدمات تاريخية موضوعية ما , وهذه المقدمات قد يختلف عليها الفلاسفة من حيث التسمية على أنها حروب أو صراعات عنيفة بين قبائل في مناطق معينة , ولكن النتيجة واحدة في النهاية وهي أن هذه الصراعات كانت تقع لأسباب معينة يقدر الكثير من الباحثين أنها على الموارد وتقاسم الثروات الطبيعية , وخاصة بعد شح الغذاء في الكثير من مناطق الكرة الأرضية .
وفي رسوم الجدران القديمة لدينا بعض الجداريات التي تمثل اشتباك أو مواجهة ما بين طرفين كل منهما في اتجاه مواجه للأخر ويطلقون السهام , ولكن الباحثين يختلفون حول هذا المشهد أن كان يمثل لعبة معينة أو حالة صراع ومعركة ما بين طرفين , ورغم أن الصور ألجداريه نادرة جدا التي تشير إلى أحداث الصراع ولكنها موجودة طبعا , وفي استراليا أيضا عثر على جداريه تمثل حالة من الصراع أو الاشتباك بين جماعتين , ولكن أيضا اختلف الباحثين على مقاصد تلك الصورة وحقيقتها ,والثقافة الاسترالية القديمة بشكل عام هي ثقافة مسالة ولم تعرف الحروب , ولم يكن لديهم ممالك مستقرة بل في الغالب قبائل مشاة يرتحلون عبر مسارات معينة .
وحسب مكتشفات علم الآثار أقدم ما عثر عليه حتى الآن في السودان في (جبل الصحابة) حيث عثر على مقبرة تحتوي على بقايا جثث أشخاص غرس بها رؤوس سهام , ويعتقد أن الصراعات هذه إن وقعت فهي في الغالب بين جماعات تعيش في نفس البيئة تقريبا أي قد تكون متجاورة وليس غزو أجنبي , وهذا يشير إلى وجود نوع من الاستقرار الزراعي في تلك المرحلة , (أي دليل واضح على أن نظام الاستقرار الزراعي كان قائما في تلك الفترة وبذلك نظام ملكية الأرض )
ويرجع تاريخ هذه المقبرة إلى حوالي 13000 و 14000 عام , ونذكر في هذا السياق أن السودان عثر بها أقدم مستوطنة بشرية زراعية عرفها المجتمع البشري ويعود تاريخها إلى ما يزيد عن 70 ألف عام , أي أن نظام الاستقرار الزراعي وملكية الأرض والموارد الطبيعية المنتجة مثل الأرض وموارد المياه كانت منتشرة في السودان في تلك الفترة , وهذا يعني أن الصراع محتمل أن يقع على هذه الموارد , والبشر مستقرين الآن والموارد محدودة بحكم طبيعة استقرارهم , وبذلك يصبح أرضية الصراع على تقاسمها والخلاف عليه قضية واردة بشكل واضح و أساسي غير مخفي .
أي كان نوع وسبب هذه الجداريات سواء كانت تشير إلى العنف أم لا , فلا بد أن يكون هناك عنف ما قد وقع عبر هذا التاريخ الطويل من حيات المجتمع البشري , ولكن الأساس والأهم هل يمكن اعتبار هذه الأحداث حروب , هنا تحديدا يحتدم الجدل الفكري بين الفلاسفة خاصة والباحثين .
في الحقيقة إذا أردنا الدقة في التعبير كفلسفة ومنطق لا يمكن اعتبار هذه الأحداث حروب , وهذا لا ينفي أنها أحداث عنيفة وأعمال عنف وقعت لأسباب معينة , نستنتج أسبابها من خلال المؤشرات والظروف التاريخية , ولا يوجد أدلة قاطعة ملموسة مباشرة على هذه الأسباب بحكم غياب الأثر التاريخي المكتوب أو الدليل القاطع , لذلك نعتمد المنطق الفلسفي والاستنتاج المنطقي لتفسير أسباب هذه الوقائع , ولكنها ليست حروب والحروب لها استمرارية وشروط معينة , وهي ظاهرة مستدامة تاريخيا منذ نشؤ الممالك الكبيرة والإمبراطوريات الإقطاعية وأقدمها السومرية وتليها المصرية واليمنية في المنطقة العربية .
أن للحروب مواصفات معينة لكي تسمى حروب , ولا يصح إطلاق هذه التسمية على أي صراع عنيف وقع عبر التاريخ البشري , ولا نريد الدخول في التفصيل لكونها قادمة معنا في عنوان قريب .
حروب التاريخ المكتوب
ليس كل صراع أو حدث عنيف يقع يحسب حرب وهذا يخلط الأمور ويجعلنا في متاهة غريبة لا مخرج منها , للحروب مواصفات وشروط لا بد من انطباقها لكي نعتبرها حرب ,
1 وجود نظام سلطة مركزي ,
2 بغض النظر مستقرة الحضارة أم قبائل بدوية كما لدي الهنود الحمر والعرب وأفريقيا والكثير من المناطق حول العالم
3 تجمع كبير من الناس تحت لواء سلطة سياسية واحدة يحكمها نظام وقانون واحد
4 وجود مؤسسات إدارية ومركزية للسلطة
5 أهداف وأيديولوجيا للنظام السائد
6 وجود مصالح اقتصادية وسياسية بحاجة إلى حماية والدفاع عنها
7 جيوش رسمية مدربة مسلحة موحدة ومتفرغة فقط للقتال ولمهمات الحربية
8 الجيوش الرسمية في الإمبراطوريات :
كانت قائمة على نظام هرمي للقيادة والهيكلية كانت منفصلة عن العشائر والقبائل التي ينتمي إليها هؤلاء الجنود , وهذه من صفات الجيوش الإمبراطورية القديمة , بحيث كانت الجيوش منظمة وإعدادها وفي هيكلتها وقيادتها على الولاء للملك وحسب , فوق كل الانتماءات .
9 الجيوش العشائرية و الميلشيات القبلية :
كانت قائمة على نفوذ وتعداد العشائر المنطوية تحت لواء القبيلة الكبيرة , وأكبر العشائر تحوز على القيادة بشكل شبه تلقائي بحكم عددها , ورغم وجود إلباس الشبه موحد لكل قبيلة و لفرسان , وشيوخها , فكان الأمير يعرف من ثيابه ولفارس أيضا , والراعي كذلك , ولكن لم يكن من لباس موحد لهذه المجموعات كما في حالة الجيوش الرسمية الكبيرة , المسلحة والمدرعة , والمعدة بعربات العجلة للقتال التي اخترعها البابليين , وصنعة مركبات حربية شكلت تفوق نوعي كبر لمستخدميها في الحرب وثقل كبير لهم في ميادينها .
هذه جميعها كانت متوفرة وقائمة في جميع الإمبراطوريات القديمة , التي عرفها التاريخ البشري المكتوب , هذا على الصعيد الرسمي والمركزي للدول والإمبراطوريات الكبيرة التي نشأت في ذلك العصر , ولكن هذا لم ينفي وجود أنواع مختلفة من الجيوش أيضا في نفس الفترة , وهي عبارة عن مجموعات قبلية تشكل من فرسانها مجموعات قتالية معينة , وهذه مختلفة عن الجيوش الرسمية والمنظمة المدربة , ولكنها نوع من الجيوش والمليشيات المحلية التي تقوم بمهمات حماية نفسها من القبائل الأخرى أو أي اعتداء ممكن وقوعه .
صراع الفلاسفة و المفكرين حول أسباب الحروب
هذا الجدل ما زال حتى اليوم محتدم و يعلو غباره , وذلك له علاقة بالبعد الأيديولوجي لهذا الأمر الهام والحساس , وفي أواخر القرون الوسطى ظهرت الكثير من النظريات والرؤية الفلسفية والأيديولوجية حول أسباب الحروب والصراعات , ودار الجدل بين علماء النفس والإجماع وعلماء التاريخ والفلاسفة وشتى المجالات التي على علاقة بموضوع التاريخ البشري والحروب والصراعات , وكثرة النظريات النفسية الاجتماعية والاقتصادية وغيرها .
ظهرت على اثر ذلك نظرية أدم سميث , وتلاها نظرية ماركس وانجلز الاقتصادية والطبقية , وظهرت ما عرف بنظرية (مالتوس) حول الحروب والصراع العنيف , (المالتوسية) وأسبابه وجذوره العميقة , وبعدها ظهرت الداروينية وغيرها من النظريات والرؤية المعاصرة حتى اليوم التي وصلت بعضها إلى مستوى عالي من التظليل والتشويه للحقائق , وخاصة تلك النظريات التي تدافع عن مفهوم الاستعمار وفوائده للشعب الفقيرة المستضعفة أصلا مثل كتاب (صدام الحضارات وإعادة تشكيل النظام العالمي) صامويل هنتنغتون , و(نهاية التاريخ) مشيل فوكوياما .
يتضح لنا من الوهلة الأولى طبيعة الصراع الأيديولوجي بين المفكرين والفلاسفة , وطبيعة الانقسام والاصطفاف الواضح بين طريفين نقيض , جانب يحاول تبرير العنف والقوة وضرورة بقاء الجيوش والحروب , وهي حتمية لا مفر منها لتطور البشرية وبقائها , بينما يقدم الطرف الأخر بكل ألوانه و تشكيلاته الفكرية رؤية مختلفة تمام مناقضة مباشرة للرؤية المذكورة , بحيث يطرح في النهاية بضرورة القضاء على الحروب , ومعالجة أسبابها القابلة للمعالجة بلا شك , من خلال تقديم مقترحات ونماذج اجتماعية معينة يمكنها أن تساهم بشكل فعال في التخفيف من حدة الصراعات البشرية , ورغم تقاطعنا مع الرأي القائل ببطلان نظريات الاستعمارية بكل أشكالها وألوانها الفكرية , واتفاقنا في الكثير من الحيثيات , تبقى هناك الكثير من نقاط الاختلاف الفكرية والنظرية والعملية رغم الاتفاق على القضايا الأساسية في فهم جوهر الصراع وأساببه , ورؤيتنا سنقدمها في النقطة القادمة .
جذر الصراع والعنف الاجتماعي وعصبه المحرك
يشكل الكشف عن جذر إي ظاهرة اجتماعية الخطوة الأساسية الأهم لفهمها والقدرة على معالجتها من خلال وضع الحلول العلمية المدروسة القائمة على خلفية البحث والدراسة المشبعة للظاهرة قبل المباشرة في وضع الحلول , وبالضرورة أن تتناغم هذه الحلول مع نظام الكون الشمولي ونظام الحركة الاجتماعية ونواميسها الأساسية , وكما لكل ظاهرة نواميس ونظام ما يحكمها , كذلك المجتمع البشري نظامه وقوانينه الموضوعية التي تسيره وتضبطه في النهاية وفق مسار معين شئنا ذلك أم أبينا .
ومن خلال العودة إلى الواقع وعلم الآثار والتاريخ والاقتصاد والاجتماع مباشرة تبين لنا التالي ,
1 ما قبل الاستقرار الزراعي لم يكن من حروب إطلاقا , كانت هناك بعض الصراعات المحدود تظهر هنا أو هناك ولكنها ليس ظاهرة عنف شاملة , ولا يمكن اعتبارها حروب
2 كانت الأرض خصبة جدا ولم يكن من حاجة للتنقل كثيرا من اجل الحصول على الغذاء بسبب وفرته .
3 التصحر والجفاف الذي ضرب الأرض وخاصة مناطق أفريقيا والمنطقة العربية
4 ظهور الاستقرار الزراعي
5 ظهور ملكية الأرض
6 الأراضي الخصبة والمياه والموارد في النهاية محدودة
7 الموارد والثروات هي جذر الصراع وعصبه المحرك ,
8 العوز وعدم المساواة في تقاسم الثروات
9 الاقتصاد وضرورات الحياة والمواد اللازمة لتأمينها هي جوهر الصراعات الاجتماعية السياسية جميعها
10 الاقتصاد هو جوهر جميع الصراعات العالمية والمحلية
11 طبيعة نظام الملكية وضروراتها لتأمين الغذاء
12 تقاسم الموارد والثروات
13 شح الموارد ,
14 طبيعة النظام السياسي ,
15 نوعية الثقافة الإنسانية السائدة والوعي الاجتماعي وطبيعته
*الملكية أصل الداء*
(لم يختلف الناس يوما على أسماء الأشياء ولكنهم تصارعوا الدهر على تقاسمها وامتلاكها)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق