(التنمية المستدامة , جذور إشكاليات وحلول)
(الحلقة الثامنة)
ج من يستثمر الحروب ويحقق الأرباح منها ؟
اتضح لنا من النقطة السالفة بدون الدخول في التفاصيل المملة أن جذر الصراع العنيف بين البشر له أسباب كثر , ولكن جذره الأساسي وجوهره يعود إلى الاقتصاد والموارد الطبيعية والخيرات المادية الطبيعية والمنتجة أيضا , وبذلك يصبح الاقتصاد هو العصب المحرك لكل الصراعات والحروب , وليس السياسة سوى إدارة الثروات الاقتصادية وتدبير شؤونها و الصراع على تقاسمها إما بالحوار والمراوغة أو بالعنف والقوة عند الضرورة فتقع الحروب وتنشب الصراعات العنيفة بين الجماعات والشعوب والأمم والأفراد أيضا .
كما وأتضح لنا بكل سلاسة أن الملكية وطبيعة نظامها يشكلان عامل هام وحساس في هذا الصراع , وغياب قوانين عادلة ونظم تحمي الجميع بالتساوي وتتيح حق الملكية للجميع تشكل حجر الأساس في الصراع البشري , وهذا ليس صراع بقاء أو صراع طبيعة , بل صراع مصالح عليا لدول وجماعات متناحرة تقود فئات وتسخرها لمصالحها , وسحب قوانين الطبيعة بشكل تعسفي على المجتمع وتفسير مظاهره يشكل محاولة انتحار فكري للمجتمع , أو تلويث ثقافته وأفكاره ومعتقداته وهي دخيلة مشوهة للحقائق , من أجل صناعة وعي شعبي وفردي وجمعي يخدم مصلحة النظام المسيطر .
ويبذل اليوم النظام السياسي في عصرنا الراهن قصار جهده لكي يصنع الرأي العام والقيم والمثل العليا للشعب و للدولة , و يصيغها بحسب مصالحه هو كنظام , وفي القديم لم يكن للشعب أي دخل أو علاقة بمثل هذه الأمور بل هي من شؤون الحكام والسلاطين والملوك والكهنة , وما على الشعب سوى الالتزام والتنفيذ بكل أمانة وإخلاص لكل ما هو لصالح الملك وحده وليس لصلحهم , ما دام الشعب ومؤسساته لا يشارك في وضع و صياغة النظم والقوانين وغيرها من ضروريات الإدارة السياسية للبلاد .
الاقتصاد السياسي
هنا تكمن كارثة مفاهيمية كبرى , وتخلط الأمور في الغالب أو يتم التغاضي عنها عمدا أو سهوا سيان , وهي العلاقة بين الاقتصاد والسياسة , وهذا جدل تاريخي ما زال محتدم حتى اليوم نظري وعملي مطبق واقعيا , وفي الإعلام تتكرر هذه الأخطاء كل يوميا وهي شائعة بكثرة , وعادتا ما يتم الفصل بن الاقتصاد والسياسة , ويتردد الحديث عن حلول اقتصادية بمعزل عن الموضوع السياسي , وهذا ليس سوى عدم فهم للواقع أو المقصود منه التضليل وتغيب الحقائق وتشويهها .
يوجد اليوم من ضمن سبل الصراع والمواجهة تجنيد ألاف البشر من ضمن المهام الأساسية لهم هي تسوق ما يضعه النظام من خطط وبرامج تستهدف الوعي الشعبي وتصنعه بشكل يسهل قيادته إلى أي اتجاه يريده النظام بما في ذلك الحروب والتحضير الإعلامي والنفسي لها .
وما زال حتى اليوم الصراع الفلسفي والفكري محتدم والاشتباك قائم في المبيدان أيضا والتطبيق , وتعددت الرؤية واختلطت المفاهيم , وحتى على مستوى اكبر الجامعات في العالم الإمبريالي الربحي لا تعطي جامعاتها مادة الاقتصاد بشكلها الصحيح , بل لا تستخدم مصطلح الاقتصاد السياسي بشكله الصحيح , وتفسره على حسب رؤيتها هي وظروف نظامها الخاص ومصالحها , وبذلك يمكن لكل إنسان أن يتعلم كل شيء في العمل الإداري والاقتصادي حول الإدارة والتطبيقات والبرامج والخطط وغيرها , أما الربح وجوهره , وحقيقة الاستثمار في ظل نظام سياسي من هذا النوع المطروح , (أليبرالية الجيدة) من المحال أن يدركه احد سوى من هو مستثمر وحسب .
في هذه الجامعات العليا ولمعاهد لا يمكن أن تجد أي مادة تكشف عن جوهر الربح وكيف تحقق الأرباح , وقوانين السوق وطبيعة نظامه , بل ويتم الفصل بين السياسة والاقتصاد بشكل أو بأخر مما يسهل ويعزز انتشار هذا المفهوم على أوسع نطاق رسمي وشعبي , وبذلك تبقى أسرار الاستثمار الحقيقة خاصة بخبرة كل مستثمر على حدة , ولا يمكن أن نجد مادة ما أو دراسة لتخريج رجل أعمال أو مستثمر , تخرج هذه المعاهد العليا مستخدمين للمستثمر , ولكن لا علاقة لها بشي أكثر من ذلك , أي دورها تأهيل كادر يخدم النظام وحسب , هذا هو وقع الحال في نهاية المطاف .
في رؤيتنا المنطقية والفلسفية وفي أكثر من مقام ومقال قدمنا الكثير حول هذه القضية الاقتصادية الشائكة , وسنحاول تقديم المختصر المفيد فقط لضيق الساحة في الدراسة ,
لكل مجتمع معين ومنظم هيكلية وتركيبة معينة , وهناك نظام اجتماعي شمولي بالضرورة أن يكون قائم لكي يتسنى لنا الحديث عن مجتمع منتج ومنظم ودولة , ولكل مجتمع بنية تحتية معينة وهذه البنية التحتية هي الاقتصاد بشكل أساسي , أي مستوى تطور البلد الاقتصادي وطبيعة نظامها ومستوى تطورها من تقنيات وعلاقات اقتصادية أساسية (مثل نظام الملكية وطبيعته النوعية) وكل ما تشمله البنية الاقتصادية الاجتماعية .
هذه البنية المذكورة بحاجة إلى نظام إداري مركز لها وقائم على أساسها ويعبر عنها , من ثقافة وقوانين ومعتقدات وفنون ونظام سياسي وغيره من المؤسسات الفوقية التي تقوم على أساس القاعدة الأساسية الاقتصادية التحتية تعبر عنها بالضرورة .
والمجتمع القديم كان له بنيته الخاصة الفوقية و التحتية , من العصور الأولى وحتى العصر الحديث والمعاصر , وكل مرحلة مرت بها البشرية حملة هذا النظام وسارة به , ولكل مرحلة بنيتها التحتية وبناء عليها جاءت البنية الفوقية , وقسم الفلاسفة و علماء التاريخ ولاجتماع التاريخ البشري إلى عدة مراحل اقتصادية اجتماعية , من المشاعية البدائية إلى الإقطاع والعبودية والرأسمالية والاشتراكية وغيرها , ولكل مجتمع بنية ما ومن ضمنها النظام السياسي .
نرى بكل وضوح أن النظام السياسي هو بنية فوقية للاقتصاد مباشرة ولا يمكن عزلها , بل هي اقصدا وعملها يختص في إدارة شؤون الاقتصاد من الناحية الوجستية والعلاقات العامة والشمولية , وسن القوانين مراقبة تنفيذها , وهذه جميعها لصالح النظام مباشرة , وليس كل البنية الفوقية بكل مؤسساتها وما تحتويه سوى جزء من البنية الاقتصادية الاجتماعية الأساسية , وهي البنية التحتية المادية بعلاقاتها وكل ما تشمله من توابع .
لذلك لا يمكن الفصل إطلاقا بين السياسة الاقتصاد , وليس السياسة سوى جزء من البنية الفوقية للنظام الاقتصادي الاجتماعي القائم , ولا يمكن الفصل بين الصراع والعنف والحروب والاقتصاد , والعمل السياسي والدبلوماسي يأتي لإدارة هذه الصراعات ومحاولة حلها من خلال الحوار والمراوغة , وحين فشل الطرق الدبلوماسية يصبح الحرب والقوة هي الخيار الآخر الذي تقرره الجهات المعنية بالحرب والتي أصبح الحرب من مصلحتها الحالية .
أن جميع الهيئات والجان وغيرها من الأفراد مثل السياسيين والموظفين الحكوميين من النظام الهيكلي هي ليس سوى وظائف تنفيذية لبرامج وخطط هي لا تقررها في النهاية , بل هي مقرة من قبل هيئات ذات صلاحية أعلى و أكثر منها , ويبقى نطاق عملها في متابعة وتنفيذ برامجها الخاصة بها وبمجالها ولكن ضمن سياق الخطة العامة الاقتصادية والسياسية للبلاد .
نرى بكل وضوح العلاقة الجدلية بين الاقتصاد و السياسة وبذلك الاقتصاد هو سياسي بالضرورة وحتما والساسة هي تعبيرا عن الاقتصاد بشكل مباشر , وليس الحرب سوى استمرار لتحقيق المصالح الاقتصادية بالقوة , والسياسة هي بنية فوقية لهذه العملية الاجتماعية المعقدة ومؤثرة في المجتمع والطبيعة والحياة بكاملها .
لذلك لا يمكن الحديث عن الصراع بعيدا عن الاقتصاد والسياسة معا , وهذا واضح بلا جدال , ولا ينقص المرء سوى الشمولية في الرؤية وطريقة التفكير , وربط الظواهر دوما بأبعدها العميقة , لتصبح أكثر وضوح واكتمال للصورة .
جميع الأطراف تقدم خسائر كبيرة في الحروب
يستنزف الحرب الاقتصاد والطاقات البشرية
الحروب تنهك الدول التي تخوضها وتضعفها دوما وفي جميع الأحوال
مستثمرين الحروب المعاصر هم وحدهم المستفيدين فقط وقاعدتهم رابح رابح في جميع الأحوال وهم :
1 شركات السلاح الكبرى
2 الرأسمال ألربوي والقروض
3 شركات الإعمار وإعادة البناء
4 شركات الأمن والحراسة والتجسس
5 وقطيع هائل من الكلاب البشرية الضالة والضواري المتوحشة التي تظهر وتطفوا على السطح حين تنشب الحرب مثل
ألصوص وقطاع الطرق والميلشيات المأجورة , والتهريب بكل أشكاله والتجارة بالبشر والمعلومات , والأدوية ولكل ما يحتاجه الناس بشدة وإلحاح في الظروف الصعبة , وبذلك يصبح المثال القريب لما يحصل, كما يحصل في الطبيعة حين تقع فريسة كبيرة مثل الفيل , يأكل منها الأسود أولا وتأخذ اكبر حصة , ويليها الضباع والثعالب والضواري الصغيرة , ثم النسور والجوارح القمامة , ثم الغربان وفي النهاية الحشرات والديدان الصغيرة , هذا تماما ما يحصل في الحرب , والخاسر الوحيد هو قطيع الفيلة والفيل الضحية الذي تم افتراسه , والبقية تقاسمت الذبيحة بتفاوت ودرجات كلا والدور الذي لعبه في هذه العملية بكاملها .
ولكن في المجتمع طبعا الأمر أكثر تعقد من ذلك وأشد وطئه رغم مستوى التشابه والتطابق أحيانا , بحيث الثقافة هنا متوحشة ولكنها مقنعة بألف وجه وقناع لتبرر همجيتها , بينما في الطبيعة هناك افتراس , أي حاجات طعام واستمرار في البقاء , وشتان بينها وبين السلوك الإنساني المتوحش المريض أحيانا ويصبح مرض منتشر واجتماعي وليس من السهل مواجهته وعلاجه .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق