الأربعاء، 10 أغسطس 2022

البلاغة العربية بين التقليد و التجديد بقلم عبدالحميد ديوان

 البلاغة العربية                        

         

بين التقليد والتجديد 

البلاغة ذلك العالم الرائع الذي يحول الواقع إلى صورة ساحرة يرتادها الإنسان بعين خياله , فسيعد لتألق صورها وحيويتها في ذهن القارئ والمستمع , ولقد سماها علماء النقد واللغة ( علماً ) تجاوباً مع المناطقة وعلماء الفلسفة , ولكنهم أخطؤوا في ذلك لأنه كان من الواجب عليهم أن يسموها ( عالم البلاغة ) لما تحويه في جوانبها من عالم يسيطر بسحره على عقول وقلوب من يعيش معها

 ولقد عشت مع عالم البلاغة منذ سني دراستي الأولى مع أساتذة كان لهم الفضل في حبي للغة العربية وبلاغتها الجميلة , وهذا ما جعلني أتألم لما حل بهذا العالم الجميل من تقطيع لأوصاله , ونقله من حالة الانصهار في عالم الجمال والاتحاد به إلى بناء منطقي جاف يعاني منه من يريد أن يرتاده صعوبة كبرى في الارتقاء إلى مفاهيمه وعلومه التي فرضت علينا بتعسف شديد من قبل علماء استخدموا سيف المنطق ليقطعوا أوصال بلاغتنا الحبيبة . وكان تواصلي معها حباً بها تارة وأخرى لأنها تقع ضمن اختصاصي ودراستي . ولقد عانيت منها مثلما عانى كثير ممن درسوا اللغة العربية , وذلك لأن الدارس فيها يتناولها كمادة تشريحية للنص . وتغدو الصورة الشعرية لديه كائناً جافاً يستلقي على منصة التشريح , فيخرج منها الدارس صورة باهتة كأنها قطعة خشب لا روح فيها ولا وجود للحياة في أوصالها . 

وقد عمدت في هذا البحث إلى استعراض تاريخ البلاغة منذ منابتها الأولى في عصر ما قبل الاسلام ( والذي سمي خطأ بالعصر الجاهلي ) وحتى عصرنا الحاضر متابعين مسيرتها وبداية تكونها وصولاً إلى عصرنا الحاضر الذي يشهد محاولات جادة لتخليصها من حالة الجمود التي رانت عليها زمناً طويلاً , ومستطلعين آراء علماء اللغة والأدب وبذلك نكون قد أضفنا إضاءة بسيطة على هذا العالم الرحب , متمنين لبلاغتنا أفقاً من الجمال أكمل وأعظم . 

لقد كان العرب في الجاهلية يمتلكون من الفصاحة والبلاغة والبيان المكانة الرفيعة في عالم الأدب , وقد صور القرآن الكريم ذلك في أكثر من آية كقوله تعالى (( فإذا ذهب الخوف سلقوكم بالسنة حداد )) وقوله تعالى : ( ما ضربوه لك إلا جدلاً بل هم قوم خصمون ) . 

ومن أكثر الدلائل على حسن بيانهم أن معجزة الرسول صلى الله عليه وسلم هي القرآن الكريم الذي يتحداهم في أقوى شيء لديهم ألا وهي الفصاحة والبيان , ودعاهم إلى معارضته إن استطاعوا متحدياً إياهم بقوله تعالى : ( فأتوا بسورة من مثله ) . ولكنهم عجزوا عن معارضته لما فيه من إعجاز بياني لا يقاربه أحد .

ويروى أن الوليد بن المغيرة استمع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يتلو بعض آيات من القرآن الكريم فقال (( والله لقد سمعت من محمد كلاماً ما هو من كلام الإنس ولا من كلام الجن , وإن له لحلاوة,  , وإن عليه لطلاوة , وإن أعلاه لمثمر وإن أسفله لمغدق ), وهكذا فإننا نجد في كلام الوليد ما يدلنا عل أنهم كانوا معجبين ببلاغة القرآن ومأخوذين ببيانه الآسر .

  ويعرض علينا الجاحظ في كتاب البيان والتبين كيف كان العرب يصنفون كلامهم في شعرهم و خطاباتهم بأنها تشبه ( برود العصب الموشاة , وبالحلل والديباج , والوشي , وأشباه ذلك ) كما وصفوهم باللوذعية والرمي بالكلام العضب القاطع . وفي أمثالهم (( جرح اللسان كجرح اليد )) ويروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استمع إلى بعض خطابائهم , فقال (( إن من البيان لسحرا )).

 وهذا أدبهم الذي خلفوه لنا يحمل ما يصور فصاحة منطقهم , وكيف كانوا يعملون جهدهم في كلامهم حتي يبلغ كل ما كانوا يريدونه من استمالة القلوب والأسماع . 

وقد أحس الجاحظ بذلك فقال فيهم : (( لم نرهم يستعملون مثل تدبيرهم في طول القصائد وفي سعة الخطب , فبلغاؤهم من الخطباء والشعراء لم يكونوا يقبلون كل ما يرد على خواطرهم , بل ما يزالون ينقحون ويجودون حتى يظفروا بأعمال جيدة )) ورأى أنهم كانوا يرسلون في خطبهم وكلامهم من أسجاع محكمة الوصف , وأن كثيراً من شعرائهم كان يدع القصيدة تمكث حولاً كاملاً يردد فيها نظره ويجيل فيها عقله حتى تخرج للناس كاملة متوازنة تامة الخلق , وكانوا يسمون تلك القصائد بالحوليات , وآخرون يسمونها المقلدات والمنقحات والمحكمات .

وكان أمثال هؤلاء الشعراء يسمون ( عبيد الشعر ) أمثال زهير بن أبي سلمى والحطيئة وغيرهم .. 

وقد لقبوا شعراءهم ألقاباً تدل على مدى براعتهم وإحسانهم للشعر مثل ( المهلهل والمرقش والمثقب والمُنخل , والأفوه , والنابغة ) . وكذلك كانت لهم مهرجانات شعرية يتبارزون فيها بقول الشعر , ويتنافسون فيما بينهم , ويحدث ذلك في أسواقهم التجارية وخاصة سوق عكاظ المقام بجوار مكة المكرمة . إذ كان الخطباء والشعراء يتبارزون في تلك السوق , وكل شاعر يريد أن يحوز قصب السبق لدى سامعيه دون أقرانه , وكانت لقريش المكانة العليا في ذلك . فكلهم يعرض عليها الشعر فمن حكمت له ذاع صيته وانتشر أمره . 

ويروي صاحب الأغاني أن علقمة بن عبده التميمي قدم عليهم فأنشدهم قصيدته . ( هل ما علمتِ وما استودعت مكتوم ) فقالوا له : هذه سمط الدهر , وعاد إليهم في العام التالي فأنشدهم قصيدته ( طحا بك قلب في الحسان طروب ) فقالوا هاتان سمطا الدهر . 

ويروى أيضاً أنهم كانوا ينصبون في أسواقهم شعراء كباراً ليحكموا بين الشعراء , فمن نوه به ذلك القاضي الشاعر طارت شهرته في الآفاق . ويقال إن النابغة الذبياني كان يحكم بين الشعراء في سوق عكاظ , وأنه فضل الأعشى على حسان بن ثابت , وفضل الخنساء على بنات جنسها , فثار عليه حسان وقال له : أنا والله أشعر منك ومنها , فقال له النابغة حيث ماذا تقول ؟ قال : حيث أقول : 

 لنا الجفنات الغر يلمعن بالضحى  وأسيافنا يقطرن من نجدةٍ دما 

 ولدنا بني العنقاء وابني محرق  فأكرم بنا خالاً وأكرم بنا ابنما 

فقال له النابغة : إنك لشاعر لولا أنك قللت عدد جفانك وفخرت بمن ولدت ولم تفخر بمن ولدك فقام حسان منكسراً منقطعاً . 

ويروى أيضاً أن طرفة بن العبد استمع وهو صغير ( كان يلعب مع الصبيان )قول المسيب بن علس في أثناء مروره بمجلس قيس بن ثعلبه وقد ألم فيها بوصف بعبره : 

 وقد أتناسى الهم عند ادكاره  بناج عليه الصيعرية مكدم 

وإذا بطرفة يصرخ : ( استنوق الجمل )) إذا أن الصيعرية هي سمة خاصة بالنوق لا بالجمال 

ولم يسلم النابغة الذبياني نفسه من إقواء في إحدى قصائده التي يقول فيها : 

 أمن آل مية رائح أو مغتدي  عجلان ذا زاد وغير مزود

 زعم البوارح أن رحلتنا غداً  وبذاك خبرنا الغراب الأسودُ

فقد تصادف أن قدم المدينة فسمع جارية تردد هذين التبين وتمد صونها بقافيتهما , فشعر بالخطأ فأصلح الإقواء بقوله : 

 زعم البوارح أن رحلتنا غداً  وبذاك تنعاب الغرابِ الأسودِ

وبعد ظهور الاسلام رأينا أن العناية باللغة وفصاحتها أخذت تنمو بفضل القرآن الكريم وما سار عليه من طرق الفصاحة والبلاغة , أما القرآن فكانت آياته تُتلى آناء الليل وأطراف النهار وأما الرسول صلى الله عليه وسلم فكان حديثه يذيع على كل لسان , وفيه يقول الجاحظ : (( إنه لم ينظر إلا عن ميراث حكمه , ولم يتكلم إلا بكلام قد حُف بالعصمة )) . 

وفي أخبار الرسول الكريم ( ص ) ما يدل على أنه كان يغني بتحير لفظه , فقد أثر عنه كان يقول : (( لا يقولن أحدكم خبثت نفسي ولكن ليقل : لقست نفسي )) كراهة أن يضيف المسلم الخبث إلى نفسه وقد كان الصحابة أبو بكر وعمر وعثمان وعلي خطباء مفوهين كما هو معروف عنهم . 

ويأتي عصر بني أمية , فنجد أن الملاحظات البيانية قد كثرت وازدادت قوة واتساعاً , فقد تحضر العرب واستقروا في المدن والأمصار , ورقيت حياتهم العقلية , وظهرت فئات مختلفة اختصت بالخطابة السياسية والدينية إلى جانب الخطابة الأدبية . وكان طبيعياً أن ينمو النظر في بلاغة الكلام , وأن تكثر الملاحظات المتصلة بحسن البيان في كافة المجالات في الميدان الأدبي من شعر وخطابه . بل لعل مجال الشعر كان أكثر نشاطاً لتعلق الشعراء بالمديح وتنافسهم فيه وفي هذا العصر فتح الخلفاء والولاة للشعراء أبوابهم وجعلوا لهم جوائز مجزية على قدر براعتهم في الشعر , فاشتد التنافس وكثرت المحاورات بينهم عن المعاني والأساليب وغيرها , وكان كثيراً ما يتعرض بعض السامعين للشعراء وهم ينشدون مبدين ملاحظاتهم البيانية حول شعرهم . ومن ذلك ما يقال بأن ذا الرمة كان ينشد بسوق في الكوفة إحدى قصائده , فلما انتهى إلى قوله : 

 إذا غير النأي المحبين لم يكد رسيس الهوى عن حب مية يبرح 

فصاح به ابن شبرمه : أراه قد برح . إذ أن كلمة(لم يكد)لم تعجبه لأنها في غير مكانها مما جعل ذا الرمة يكف ناقته ويتأخر بها قليلاً وهو يفكر ثم أنشد : 

 إذا غير النأي المحبين لم أجد رسيس الهوى من حب مية يبرح 

ولم يسلم عبد الله بن قيس الرقيات من النقد عندما أنشد الخليفة عبد الملك بن مروان قصيدته البائية وعندما وصل إلى قوله : 

 يأتلق التاج فوق مفرقه  على جبين كأنه الذهب 

فعاتبه عبد الملك قائلاً : قد قلت يا بن قيس في مصعب بن الزبير : 

 إنما مصعب شهاب من الله  تجلت عن وجهه الظلماء

فأعطيته المدح بكشف الغم وجلاء الظلم , وأعطيتني من المدح مالا أفخر  به وهو اعتدال التاج فوق جبيني الذي هو كالذهب نضارة . وهذه الملاحظة التي أطلقها عبد الملك كانت دقيقة لأنها تؤكد الفرق بين المدح بالفضائل النفسية , والمدح بأوصاف الجسم . 

أما في العصر العباسي فقد اتسعت الملاحظات البلاغية وبدأنا نشهد تطوراً ملحوظاً في الحضور البلاغي المستقل عن النقد الأدبي , ويعود ذلك إلى روافد عديدة ساهمت في نشأة البلاغة وظهورها في اتجاهين . اتجاه ذوقي اعتمد على الشعر , والثاني عقلي أو كلامي اعتمد على النثر والقرآن الكريم بشكل خاص . 

ولقد تمثلت روافد البلاغة في القرآن الكريم , والترجمة ودخول الأعاجم الذي أدى وجودهم إلى حاجتهم لمعلمين يعلمونهم أصول الدين واللغة , ويفسرون لهم ما غمض من آيات القرآن وما استغلق عليهم من مجازاته واستعاراته , وبذلك نشطت عدة دراسات تبحث في معاني القرآن العظيم وما فيه من إعجاز بلاغي . وهذا ما جعل وجود اللغويين والكتاب والمؤدبين والمتكلمين ضرورة لابد منها في حياة اللغة العربية . 

وقد عملت الروافد التي ذكرناها على تعميق مجرى البلاغة العربية وتوسيعها , فقد كانت كل بيئة تسهم في تسجيل ملاحظات مختلفة على فصاحة الكلام وبلاغته , وقد تطورت هذه الملاحظات من محاولات تسجيلها إلى وضع دراسات حولها .

هذه الدراسات التي ساهمت في نمو الأفكار البلاغية وجعلتها تتحول من مجرد ملاحظات إلى دراسات جادة في هذا المجال . 

وأول من شق طريق التأليف البلاغي كما تذكر الدراسات هو عبد الله بن المعتز في كتابه ( البديع ) الذي حدد فيه خصائص مذهب جديد وضع له مصطلحات معينة , وأثر في النقاد الذين أتوا من بعده . أما قدامة بن جعفر فقد جاء كتابه نقد الشعر معتمداً بشكل كامل على المنطق والفلسفة . وهو مذهب أبي تمام في البديع , أما ابن المعتز فقد كان مناصراً للبحتري في طريقته التي يسلك فيها طريق القدماء  في التعبير . وكان للأثر اليوناني في نظر قدامة البلاغي حيز كبير . وقد اتفق نقاد العصر الحاضر على أن قدامة كان متأثراً بكتابي الخطابه والشعر لأرسطو . 

ويبدو أنه من حسن حظ النقد العربي أنه لم يتأثر بكتاب قدامة وأن تأثيره اقتصر على بعض الدراسات البلاغية التي جاءت من بعده كالعسكري وابن سنان الخفاجي وابن الأثير وتتابعت الدراسات البلاغية , فقدم لنا الباقلاني ( أبو بكر محمد بن الطيب ) كتابه إعجاز القرآن الذي درس فيه الصور الإعجازية والبلاغية في القرآن الكريم , كما درس ابن طباطبا في كتابه عيار الشعر البلاغة في شعر أبي تمام والبحتري والفارق بينهما , وكذلك الموازنة للآمدي ثم الوساطة بين المتنبي وخصومه للجرجاني ( علي بن عبد العزيز الجرجاني ) . 

ولم يمض وقت طويل حتى ظهر لنا أهم كتابين في البلاغة العربية . وهما كتاب دلائل الإعجاز , وكتاب أسرار البلاغة لعبد القاهر الجرجاني , والذي وضع في أولهما نظرية النظم ونظرية علم المعاني وفي أسرار البلاغة نظرية علم البيان 

ومع ذلك فإن علوم البلاغة السائدة . أي ( علم المعاني والبيان والبديع ) لم يكن قد استقرت بعد لأن عبد القاهر لم يعرض لعلم البديع بشكل كامل بل تعرض لبعض فنونه , بل لقد عد  الاستعارة من علوم البديع , وقد عرض في كتابه دلائل الاعجاز كما ذكرنا نظرية النظم التي أدار عليها كتابه وعرض في ثنايا هذه النظرية إلى شيء من المجاز والاستعارة والكناية ( كما ذكر د . نعيم اليافي في بحث البلاغة الذي قدمه على شكل محاضرات في كلية الآداب في حلب ) ويؤكد على أن العلوم البلاغية لم تستقل عن بعضها حتى ذلك التاريخ . 

أما الدكتور عبد السلام الراغب فقد ذكر في كتابه ( وظيفة الصورة الفنية في القرآن الكريم ) أن الجرجاني حاول أن يصحح المفاهيم النقدية التي ذكرت قبله , والتي قامت على الفصل بين اللفظ والمعنى , فنظرته على ضوء هذه الثنائية إلى حصر الصورة في الشكل دون المضمون جعلته يربط الصورة بالصياغة أو النظم , وهو يرى أن الصياغة متحدة بالمعنى ولا تنفصل عنه لأن أي تغيير في الصياغة يتبعه تغيير في الصورة , لأن الصورة تفهم من خلال النظم . 

يقول الجرجاني : (( ومعلوم أن سبيل الكلام سبيل التصوير والصياغة , وأن سبيل المعنى الذي يعبر عنه سبيل الشيء الذي يقع التصوير والصوغ فيه , كالفضة والذهب يصاغ منها خاتم وأسوار ، وكما أن محالاً إذ أردت النظر في صوغ الخاتم , وفي جودة العمل ورداءته أن ننظر إلى الفضة الحاملة لتلك الصورة أو الذهب الذي وقع فيه ذلك العمل , وتلك الصنعة , وكذلك محال إذ أردت أن تعرف مكان الفصل والمزية في الكلام أن ننظر في مجرد معناه )) . 

ولكن جهود الجرجاني والزمخشري من بعده والذي تابعه في نظرته البلاغية لم تلق صداها في آذان من آتى بعدها , ونقصد السكاكي والقزويني اللذين أطاحا بكل جهود هذين العبقريين وأعادوا البلاغة إلى علم المنطق والفلسفة , وبذلك شهدت البلاغة على أيديهما حالة من الجمود والتدني لم تبرأ منها إلى عصرنا الحاضر . فقد حددوا البلاغة بهذه المقاييس وضبطوا أبحاثها بهذه الاعتبارات العقلية التي أزهقت روح البلاغة وأحالتها إلى قواعد جافة لا حياة فيها , وبذلك نشأ ذلك الجدل العنيف والنقاش الجاد في كتب البلاغة , فأخرجها عن هدفها الأساسي ومن يقرأ كتب المتأخرين وشروح التلخيص لكتاب السكاكي ( مفتاح العلوم ) يجد هذه الظاهرة واضحة جلية , ويجد أن أحكام المدرسة الكلامية بعيدة عن الروح الأدبية التي تعتمد على الذوق الأدبي والاحساس الفني الصادق . 

ومن شواهد الأثر الفلسفي لهذه المدرسة هو الإقلال من الشواهد الأدبية , وذلك لأن رجالها يهتمون بالتجديد المنطقي والحصر والتقسيم , وعندما يذكرون المثال يأتون بأمثلة حياة فيها ولا تمتلك روحاً ادبية تحيط بصورها , لأن صحة الشاهد عندهم أهم من الجمالية التي تكمن في معانيه وإسقاطاته على النفس , ولذلك لم يوجهوا عنايتهم إليه , ومثال على ذلك ما ذكره السكاكي في مفتاحه في معرض إيراد الشواهد حول رد العجز على الصدر فأتى بهذا المثال لقول الشاعر : 

 مشتهر في علمه وحلمه  وزهده وعهده مشتهر 

 في علمه مشتهر وحلمه  وزهده وعهده مشتهر 

 في علمه وحلمه وزهده  مشتهر وعهده مشتهر 

فأي معنى تحمله هذه الأبيات المرصوفة كأنها قطع خشبية لا روح فيها , وأين من ذلك قوله تعالى : (( وجزاء سيئة سيئة مثلها )) أو قوله تعالى (( وللأخرة أكبر درجات وأكبر تفصيلاً )) 

أو قول عمر بن أبي ربيعة : 

 واستبدت مرة واحدة  إنما العاجز من لا يستبد  

فهذا كلامه يقطر حسناً ويفيض بتألقه على كل ما حوله . 

واستمر الأمر على حاله من  الجمود حتى عصرنا الحاضر الذي شهد محاولات عديدة لإعادة الحياة إلى بلاغتنا وكان الإمام محمد عبده أول المناضلين في هذه الساحة من أجل نهضة البلاغة العربية , فقد أخذ يحيي كتاب السلف النافعة من مثل كتابي الامام عبد القاهر الجرجاني ( دلائل الإعجاز ) و ( أسرار البلاغة ) ثم جاء بعده علي عبد الرزاق في كتاب له أسماه ( أمالي علي عبد الرزاق في علم البيان وتأريخه ) . 

وجرت محاولات أخرى لتطعيم بلاغتنا بالبلاغة الأوربية على يد أمين الخولي في كتابه البلاغة العربية وأثر الفلسفة فيها الذي ربط به البلاغة بعلم النفس وألح على أنها مزية نفسية وليست مزية لغوية )) . 

ومن نفس المنطلق حاول أحمد الشايب في كتابه (( الأسلوب )) أن يعرض أنماطاً متعددة للأساليب يلائم كل نمط منها نوعاً من التعبير , ثم عرض لخصائص هذه الأساليب وملامحها وعناصرها . 

وفي مرحلة متقدمة برزت دراسات جديدة  لعدد من الكتاب واللغويين والنقاد تتناول البلاغة بأسلوب جديد يعتمد فيه مصطلح ( الصورة ) عنواناً لها متكئين في دراساتهم على ما قدمه الغرب من دراسات في هذا الصدد . ومن هؤلاء الكتاب د . نعيم اليافي في كتبه (( الشعر العربي الحديث ) وتطور الصورة في الشعر العربي الحديث ومقدمة لدراسة الصورة الفنية و الشعر بين الفنون الجميلة وكذلك الدكتور فايز الداية في كتابه جماليات الاسلوب ( الصورة الفنية في الأدب العربي ) والدكتور مصطفى ناصف والدكتور أحمد بسام ساعي وغيرهم كثيرون . 

وسنعتمد في إطلالتنا هذه على ما قدمه د . نعيم اليافي بشكل أساسي لأن دراساته احتوت تقريباً معظم الآراء التي طرحت في كتب النقد الحديث . 

يبدأ اليافي دراسته معرفاً بمصطلح الصورة التي يرى أنها تستعمل في أكثر من مجال من مجالات المعرفة الانسانية . ويرى أن لها دلالات متعددة , منها الدلالة المعنوية , والدلالة الذهنية والدلالة الرمزية والبلاغية . ويعرف بعد ذلك الدلالة اللغوية للصورة أنها تعني نسخة طبق الأصل أي أنها تمثل تمثيلاً مباشراً لموضوع خارجي بصري على الأغلب , وأن الدلالة الذهنية تشير إلى أن الصورة هي وحدة بناء الذهن الإنساني ووسيلته الوحيدة للتعرف على الأشياء , وتوجيه السلوك أو تحديده بالنسبة إليها . 

أما الدلالة النفسية فتقترب من الدلالة الذهنية إلا أنها تستخدم في نطاق علم النفس , ويرى أن الصورة هي انطباع أو استرجاع أو تذكر لخبرة حسية أو إدراكية ليست بالضرورة بصرية . 

أما الدلالة الرمزية فإنها تستعمل بشكل خاص في الدراسات الانثروبولوجية , والصورة لديها هي القصيدة بأجملها باعتبارها رمزاً حسياً يكشف عن أشياء جوهرية في حياة الأديب وشخصيته وطبيعة ذهنه إنه خلق يعادل به الشاعر حدسه أو يقدم رؤيته الفنية للصورة التي يبنيها في عمله . وفي الدلالة البلاغية فإننا نجد د. اليافي يقدم لنا تعريف معجم اكسفورد لهذه الدلالة التي يرى أنها الصورة الفنية المفردة التي هي شكل مفرد من أشكال الكلام البلاغي تضم مقارنة أو علاقة بين مركبين أو عنصرين لنقل تعبير غير حرفي , وأن استعمال هذا المصطلح ( صورة ) يشمل جميع الأشكال البلاغية رغم خطورته ومشكلاته فهو أفضل بكثير من أي استعمال تقليدي آخر . 

ملاحظة : الانثروبولوجية : هي دراسة البشر وسلوك الانسان والمجتمعات الماضية والحاضرة / وأصلها يوناني وهي عبارة عن كلمتين هي أنثرو – تعني الانسان – لوجي = وتعني العلم 

ثم ينتقل بعد ذلك إلى دراسة مناهج الصورة الفنية التي تصنف حسب رأيه إلى منهج نفسي ومنهج رمزي ومنهج فني أو بلاغي . 

ففي المنهج النفسي تعني الصورة الشعرية الانطباعات الحسية المسترجعة التي يبني بها الفنان عمله , ويتلقاها ويتأثر بها حين تنبهها في ذهنه كلمات القصيدة , وكل فنان يختلف عن غيره في طبيعة صورة , والوقوف على هذا الاختلاف هو وقوف على طبيعة ذهن الشاعر ودراسة لجوهر تركيبه النفسي , وبيان لرؤيته المبدعة وخصوصيتها . 

أما المنهج الرمزي فقد انقسم الدارسون له إلى فريقين . الأول يرى العمل الشعري الواحد رمزاً كلياً وحسياً , والآخر يرى فيه تياراً من الرموز العضوية الملتحمة . وقد اتكأ في دراسته على دراسته على دراسات غربية ( لورد زورث ) و ( كيرموند ) في دراساتهما للشعراء الغربيين . 

أما المنهج الفني البلاغي فإنه يدرس طبيعة العلاقة الازدواجية بين مركبي الصورة القائمة بين المحمول والوسيلة . ويرى آخرون المحافظة على وحدة الناتج النهائي لعملية المقارنة التي تركز على دراسة الصورة ككل . 

وفي فصل آخر يركز اليافي على أسس دراسة الصورة الفنية , ويرى أن هذه الدراسة تقوم على التمييز بين نمطين من التعبير . نمط يكون فيه التعبير ذا ثنائية مزدوجة بين الفكر والصورة . فالشاعر يقدم الفكرة أولاً ثم يأتي بالصورة . والنمط الآخر يكون التعبير فيه ذا مقولة واحدة ( فكر وصورة ) حيث يقدم الشاعر الفكرة بالصورة ويغنيها بها،ويشترك النمطان في أن كلأ منهما ينقسم قسمين قسم يقوم حول دراسة الصورة المفردة , وقسم يقوم على دراستها في نطاق النسق أي في ضوء علاقاتها . 

وينطلق بعد ذلك إلى التفصيل في أشكال الدراسة البلاغية للصورة , ودراسة النوع النفسي لها ثم دراسة النمط الغالب فيها . وينتهي أخيراً إلى التفصيل في دلالات الصورة بين الرمزية والصور المتجاوبة وثالثة إشارية . 

ففي الصورة الرمزية يخبرنا أن الرمز شكل أساسي من أشكال الصورة , وأنه متعدد الأشكال من رمز علمي إى رمز رياضي أو فني أو أدبي , وهو بالنهاية شكل من أشكال أدوات تيسير الفكر , ويرى أن الرمز مبحث رئيسي من مباحث نظرية المعرفة . 

أما الصورة المتجاوبة فإنها تحمل أسماء متعددة من متراسلة أو متجاوبة أو مزدوجة أو متحولة لكنها تحمل مدلولاً واحداً , وهو أنها الصور التي تصف مدركات حاسة من أخرى فتعطي المسموع لوناً , وتهب اللون نغماً , وتصير المرئيات عاطرة , وتجعل من المشمومات ألحاناً . أي أنها تقيم صلات متداخلة بين معطيات الحواس المختلفة وهذا ما لا يمكن أن نجده في صور 

التيار الكلاسيكي الذي يعتمد على الاثنينية المتعارضة , والرؤية الخارجية للأشياء .

 ونصل أخيراً إلى الصور الإشارية التي هي وسيلة من وسائل التعبير يستعملها الشاعر في وضع خاص كأن يورد شطراً أو مقطعاً أو بيتاً لشاعر آخر بين ثنايا كلامه ( وهو ما يعرف في البلاغة التقليدية بالتضمين ) وقد اعتبرها د . يافي صورة حتى وإن كان النص المنقول تعبيراً حرفياً لأن الشاعر يقابل عن طريقها ويقارن بين حالتين أو موقفين أو غرضين , ويثير في نفس المتلقي انفعالاً معيناً . 

إنها ( أي الصورة الإشارية ) عنصر مكون للتجربة الشعرية , ونسقها وإطارها العام , وليست تعدياً على أملاك الآخرين , والشاعر عندما يستخدمها يريد أن يحضر للأذهان مضمون عمل سابق أو روحه وأن يقيم بينه وبين صاحب النص ( المستعار ) حديثاً متبادلاً يكشف فيه رؤيته من خلال هذا الاقتباس ) . 

وبعد : ... فإن ما قدمناه في هذا البحث ليس إلا صورة مجتزأة من سفر طويل في تاريخ البلاغة العربية . ويؤسفني أننا حتى اليوم نمارس الظلم الفادح في مدارسنا وجامعاتنا على بلاغتنا وعلى لغتنا معاً . فنحن لا زلنا ندرس البلاغة العربية على طريقة السكاكي وأضرابه , ولم نتخلص بعد من أدران المنطق في تشريح العلوم البلاغية إلى معاني وبيان وبديع وتفصيلاته الدقيقة دون النظر إل النص الأدبي كصورة كلية حية تنبض بالحياة , بل إننا لم نستفد من كل الدراسات التي قدمها دارسون أفاضل والذين بذلوا فيها جهوداً كبيرة ليخرجوا بلاغتنا من ثوبها القديم إلى أفق أرحب , وبيان أوضح . 

وكلي أمل وأنا أضم صوتي لصوت دعاة التجديد في البلاغة , ولكن انطلاقاً من روحها العربية كما فعل الجرجاني والزمخشري والقرطاجني الذي عرف مصطلح الصورة قبل أن يصلنا من الغرب . 

ورآي أنها تتصل بالتخيل والمحاكاة بقوله : (( إن المعاني هي الصور الحاصلة في الأذهان عن الأشياء الموجودة في الأعيان . فكل شيء له وجود خارج الذهن , فإنه إذ أدرك حصلت له صورة في الذهن تطابق لما أدرك منه , فإذا عبر عن تلك الصورة الذهنية الحاصلة عن الإدراك أمام اللفظ المعبر به هيأت الصورة الذهنية في إفهام السامعين وأذهانهم )) 

وفي النهاية نتمنى أن نبدأ بمراجعة حقيقية لبلاغتنا منطلقين من تراثنا الذي يزخر بالفهم الحقيقي لعظمة لغتنا السمحة المبدعة , ونترك ما كرسه السكاكي وأضرابه من جمود في هذه المصطلحات , ثم نستعين بعد ذلك بكل ما يمكن أن يفيدنا في هذا المجال حتى نصل إلى صورة ناضجة ومشرفة لبلاغة عربية تجعل من لغتنا كما أرادها القرآن الكريم لغة عالمية . 


د عبد الحميد ديوان


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

مشاركة مميزة

هل يكفيك العتاب يا فرنسا بقلم البشير سلطاني

هل يكفيك العتاب يا فرنسا ؟ هنا يقف المجد ثائرا على كل شبر من أرضنا التي زارها الغيث يوما من دم الشهيد ارتوت وازهرت ياسمين يفوح رائحته في ك...