الأحد، 4 سبتمبر 2022

الزمن الجميل بقلم عبده داود

الزمن الجميل
ايلول 2022
 عندما أتذكر تلك الأيام في بلدي النبك/ ريف دمشق تلك السنين التي رحلت وأضحت مجرد ذكرى ترسم على ثغورنا ابتسامات خجولة، ونقول ما أجملها كانت تلك الأيام البسيطة الرائعة التي مضت، وأضحينا اليوم نسميها الزمن الجميل...
  من تلك الذكريات العالقة بذهني، والتي تفرحني كلما أعدت ذكراها وتعيدني إلى أيام الصبا والشباب...
  عندما كنا في الصيف أحيانا نقف على أحد أسطحة البيوت في حارتنا. أربعة أو خمسة شباب صغار نستقبل الصبايا حاملات القمح المسلوق في معاجن نحاسية كبيرة، على رؤوسهن ويصعدن بها على السلم الخشبي البدائي إلى السطح... صبية تلوى الأخرى، لتسليمه لنا لنقوم نحن بتفريغه وفرده في المكان المعد بعناية على سطح البيت...
في ذلك الزمان كانوا يسلقون القمح في جعائل (جمع جعيلة) نحاسية والجعيلة تعني حلة ضخمة. كالتي يطبخون فيها في معسكرات الجيش وربما أضخم. 
كان أهل الحارة ينصبون الجعيلة في إحدى ساحات القرية ثم يقوم من أراد سلق القمح بإسقاط القمح (المصول) المنظف تماماً في غرابيل خاصة لهذه الغاية، ويسكبون كمية الماء المناسبة ثم يشعلون النار تحت القمح، ويلقمونها باستمرار بسنابل القمح الناشفة المكسرة وقودا، لمدة تزيد عن ثلاثة ساعات حتى ينضج القمح تماماً...عندها يصبح اسمه السليقة...
يساعد الشباب والصبايا في نقل السليقة من الجعيلة إلى سطح بيت أصحابها... 
هذا كان يسعد الشباب والصبايا لأنها فرصة تلاقي العشاق، تبادل النظرات، وربما اللمسات الناعمة...أو حتى رسائل الحب التي سرعان ما كانت الصبايا تخفين الرسائل في صدورهن...
إضافة إلى ذلك المساعدة في ذلك العمل كان واجبا على الجميع، لأن أهل القرية اجمالاً يسلقون القمح في تلك الفترة من السنة لتصنيع البرغل وتموينه للشتاء ويحتاجون إلى مساعدة بعضهم البعض...
بعد نقل السليقة من الجعيلة إلى سطح المنزل، غالبا ما كان يتبع ذلك حفلة سمر صغيرة، وجبة حلويات من السليقة ذاتها المحلاة بالسكر والجوز والشمرا، وكذلك يقدم العنب، تلك الفاكهة التي تتوفر في مزارعنا في شهر أيلول من كل سنة... 
غالباً بعد الوجبة الخفيفة، كان يتم حفل راقص بسيط على ايقاع الدربكة، والعزف على العود وغناء الشباب والصبايا، وأغاني فيروز الرائعة ومنها سهرة حب التي لا أزال أحبها وتسعدني كلما سمعتها...احيانا تتطور الرقصات إلى الدبكة الجماعية وحينها تهتز الأرض تحت اقدام الفنانين الذين يعرفون كيف يدبكون...وحينها ترقص الدار فرحا مع زغاريد النسوة واهازيجهم...
 لنعود للسليقة على سطح البيت، كان يتوجب على أصحابها، تحريك القمح المسلوق، صباحاً، مساءً، حتى يجف تماما، لدرجة اليباس، بعدها يتم تنزيله وازالة الشوائب العالقة عليه، ليتم جرشه في مطحنة خاصة تسمى الجاروشة. والجاروشة هذه ماكينة يستأجرها أهل الدار هي وعمالها، يحضرونها إلى المنزل ليجرشون القمح تحت أحجار الرحى فيتحول إلى برغل...
 بالمناسبة بحثت في الصور القديمة عندي وعند الأصدقاء حتى أرفق لكم صورة عن الجاروشة، لكنني لم أجد وربما بعض الوصف يوضح الأمر. وأرجو من قارئ الموضوع الذي عنده صورة للجاروشة أن يتكرم بإنزالها في التعليق على هذه البانوراما التي تحكي قصة من أيامنا الحلوة...
 الجاروشة صندوقا يحتوي على حجري الرحى اللذان يتم تدويرهما بواسطة دولابين يثبتان على جانبي الصندوق يقوم رجلان قويان بتدوير الدولابين لجرش (تكسير) القمح المسلوق الجاف تماماً، تحت حجري الرحى المثبتان بقلب الصندوق يتساقط القمح الجاف من صندوق مثبت فوق الجاروشة على شكل هرم مقلوب ليتكسر تحت احجار الرحى. والذي لا ننساه هو صوت الجاروشة الذي كان يزعج جميع أهل الحارة، لكن لم يكن أحد يتذمر لأن الجاروشة ستنتقل إلى بيوتهم جميعا...
يتحول القمح المسلوق والمطحون إلى برغل... ويتم فصل البرغل حسب حجمه، منه الناعم، ومنه المتوسط الحجم، ومنه الخشن ولكل نوع من أنواع البرغل استخدامات تعرفها ربة البيت. 
يخزن البرغل في خزانة خشبية كبيرة مقسمة عادة إلى ثلاثة اقسام تسمى (الكندوج) يملأ من الأعلى، وفي أسفل كل قسم من أقسام الكندوج توجد فتحة صغيرة لها غطاء يسحب بالجر إلى اعلى، ويتم سحب كمية البرغل المراد منه، ثم يعاد اغلاقها لاستخدامها في مرات لاحقة... 
هذه الصور الجميلة لاتزال حية في ذاكرتي منذ اكثر من نصف قرن .
ربما تلاشت بعض التفاصيل مع تلاشي السليقة، وأصبحنا اليوم نشتري البرغل جاهزاً معبأ في أكياس النايلون الملونة المكتوب عليها كلمات غالباً مغلوطة، مثلاً يقولون هذا هو أفضل انواع البرغل، بينما في الحقيقة ليس كذلك... 
سألت جدتي مرة، لماذا كل هذا العذاب تقومون به في الصيف؟ سليقة وجاروشة وكندوج غير المؤن الأخرى، مختلفة الأنواع، ابتسمت جدتي وقالت: 
يا ستي، إذا لا نملأ الكندوح في فصل الصيف، لا نأكل في فصل الشتاء...

بقلم الكاتب: عبده داود

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

مشاركة مميزة

‏بنك القلوب بقلم ليلا حيدر

‏بنك القلوب بقلمي ليلا حيدر  ‏رحت بنك القلوب اشتري قلب ‏بدل قلبي المصاب  ‏من الصدمات ولما وصلت على المستشفى  ‏رحت الاستعلامات ‏عطوني ورقة أم...