الأحد، 25 ديسمبر 2022

النار نيران بقلم ماهر اللطيف

النار نيران
بقلم: ماهر اللطيف

كنت في طريقي إلى منزلي مساء يوم من الايام بعد أن قضيت فترة زمنية مظنية من العمل طيلة مدة الدوام، فلمحت امرأة اربعينية العمر او خمسينيته تبكي بحرقة وهي تصيح عاليا وتنحب وتندب وتلطم على وجهها والناس من حولها يحاولون تهدئتها ومنعها من مواصلة هذا الصنيع الذي سيعود عليها بالضرر على جميع الأصعدة حتما إن استمرت في ذلك وهي تقول : " ليتني مت مكانك بني، ليتني أطلقت سبيلك ولم اقتف اثرك للقصاص منك إثر تكسيرك للدار واثاثها بالكامل، ليتني بعت ما بعت واقترضت او سرقت وتحايلت أو طلبت وتسولت لامكنك من المال لتتجاوز الحدود بحرا خلسة مع أصدقائك وتلتحق ببلدان الغرب لتجرب حظك هناك بعد أن مت حيا هنا حتى فقدت كل أمل في الغد، ليتني اشتريت حياتك وحافظت على حياة العائلة باسرها بدل موتنا جميعا... ".
فجأة صمتت وطلبت قليلا من الماء لتروي عطشها وتبلل وجهها وترتاح قليلا وهي تعاني من صعوبة في التنفس والكلام والحركة وقد برز عليها الحزن والألم وعمق الجراح واتساع لهيب جحيم معاناتها التي تساءل عنها الجميع هنا ولم نحصل على جواب شاف إلى حد الآن، مما زاد في تعقيد الأمر وصعوبة التدخل لاعانة هذه المرأة واخراجها من ضيقها ووضعيتها الحرجة التي تمر بها حاليا.
وقد ازداد الأمر صعوبة حين فقدت المرأة الوعي بغتة وسقطت ارضا بلا حراك كانها جثة هامدة مما اربك الحضور وجعلهم يطلبون الإسعاف بسرعة وبعضهم يحاول مدها بالاسعافات الأولية في انتظار حضور المد وأهل الاختصاص، فوضعوها في موضع " الوضع الجانبي الآمن" position latérale de sécurité وفتحوا كل ضيق في لباسها حتى حافظة صدرها وبقوا يراقبون نبضها واسترسال تنفسها بعد أن امروا الجميع بالتقهقر وفسح المجال للمراة حتى تتمتع بأكثر ما يمكن من الهواء الذي يساعدها على المقاومة والتشبث بالحياة في انتظار وصول الإسعاف الذي لم يتأخر فعلا وقام اعوانه الذين نزلوا من السيارة بسرعة باللازم قبل أن يعتزموا نقل المغمي عليها إلى المستشفى لاستكمال نجدتها وتأمين سلامتها.
فطلب أحد المسعفين من الحضور الحصول على بعض المعطيات الخاصة بالمريضة فلم يحظ بجواب لأنه لا أحد يعرف عنها شيئا مما جعله يطلب متطوعا او متطوعة لمرافقتها وتولي مسؤولية الاهتمام بها وبحاجياتها وحاجيات المستشفى ومعاليم التداوي والعلاج وغيرها، فلم يتحمس لذلك احد وشرعوا في التسلل ومغادرة المكان تباعا حتى اقفر مقر تجمعهم ولم يبق فيه غير الضحية ورجال الإسعاف ومخاطبكم الذي لم يفهم ما يحصل ولم ير مانعا من مرافقة هذه المرأة والوقوف إلى جانبها وفق المتاح والممكن عند الاقتضاء رغم التعب والشعور بالنعاس والحاجة إلى الانفراد بالذات كالعادة.
فواصل المسعفون التدخل والسيارة تشق الطريق شقا وتطويه طيا ومنبهات الانذار تطوق كل مكان تطؤه وتقتل صمته إلى أن بلغنا مقصدنا حيث رأيت أصحاب الميدعات البيضاء يجرون صوبنا ويقومون بمهامهم على أكمل وجه لاسعاف هذه الروح البشرية إن كتب لها البقاء والحياة بكل تأكيد.
فتبعتهم كما طلبوا مني وقمت بتسجيل المريضة التي لا أعلم عنها شيئا ودفعت معلوم التداوي بعد أن استظهرت بهويتي وتم تسجيلها على سجلات المؤسسة على اساس اني مرافق ل
المصابة(ويبدو أنهم سجلوا المريضة تحت اسم مستعار او نكرة في انتظار حضور أحد يعرفها ليتم تسوية وضعيتها الإدارية).
غير أنهم امروني بالبقاء في قاعة الإنتظار إلى أن يتم التدخل الطبي ويتخذ في شأن المريضة القرار المناسب من طرف الطبيب المباشر، فاقتربت من قاعة الفحص خلسة لأرى ما يحدث ، فمنعوني وامروني بالتراجع والالتحاق بقاعة الانتظار.

فوقفت بجانب مجموعة من الممرضين كانوا يتحدثون عن هذه السيدة ، فقالت الأولى بصوت منخفض لا يكاد يسمع والبقية ينصتون إليها بانتباه:
- هذه الخالة فاطمة كالعادة؟ يؤتى بها باستمرار في هذه الوضعية بعد أن تفقد الوعي في اي مكان وزمان، فيقع اسعافها وانقاذ حياتها ، وتوجه نحو طبيب الرئة والتنفس فتهرب وترفض مواصلة العلاج وتتمنى الموت عن الحياة.
- (ثانية) كما تتسلم رسالة سرية لتذهب بها إلى الطبيب النفساني لكنها أيضا ترفض التداوي وتدعي انها بخير
- (ثالث) مسكينة هذه المرأة فعلا، فهي فقيرة الحال تعول عائلة كبيرة العدد بمعية زوجها العامل اليومي الذي يقتات يوما ويركن للراحة أياما اخر
- (رابع بهدوء ورصانة) هل تعرفها يا كمال؟
- (كمال بثبات) قطعا، فهي جارتي التي يحبها كل السكان ويرأفون بحالها ويساعدوننها دون قيد أو شرط ، بل انهم يلقبونها ب"المجاهدة" لأنها لا تكل ولا تمل وتقوم بأي عمل مهما كان نوعه و حجمه و صعوبته من أجل الحصول على المال ومواجهة الحياة ومصاعبها، فلها اربعة أبناء عاطلين عن العمل بعد أن انقطعوا عن الدراسة مبكرا لضيق الحال وندرة الامكانيات والاموال، ويقطن معها والدها المقعد ووالدي زوجها المسنين وهم يسكنون في بيت صغير للغاية لا يسمح لهم بالمقام الطيب المريح الموفر للصحة والعافية، وهو منزل تبرع به لهم احد الجيران جعله الله في ميزان حسناته، كما تولى آخر – أثابه الله خيرا - دفع معلوم الماء والكهرباء باستمرار.
- (الأولى بشغف وفضول بعد أن التفتت يمنة ويسرة وتأكدت من خلو مراقبة بعضهم لهذا التجمع - وقد تظاهرت بعدم الاهتمام بهم وبالانشغال بهاتفي الجوال-) ما قصتها اذن؟ من المؤكد أنك تعلم سبب ما هي عليه اليوم
- (كمال متحرجا وغير متحمس للخوض في هذا الموضوع) اعفوني من هذا الموضوع رجاء
- (الثانية مصرة وملحة) قص علينا حكايتها يا كمال، ما الذي يمنعك من ذلك؟ فقد تساعدنا قصتها على علاجها وفي تنبيه الأطباء ومدهم بما يفيدهم
- (كمال مقاطعا ومتاففا بعد أن القى نظرة شاملة على المكان) قصتها مؤلمة تبكي الحجر وتجعل الجبال تخر حزنا والما عند سماعها. فقد سبق أن اعلمتكم أن لها أربعة أبناء عاطلين عن العمل اكبرهم "مؤمن" الذي تجاوز العشرين من عمره ببضع سنوات وبقية اخواته، كما قلت لكم ان والدهم عامل يومي قليل العمل والدخل وكثير المرض والوهن ، وأن "المجاهدة" تعمل ليلا ونهارا من أجل توفير ما تقدر على توفيره وأكثر، ولم تستطع ذلك في النهاية مما جعلها تقبل معونة أهل الخير من هنا وهناك. لكن مؤمن لم يكن في المستوى المنتظر منه حقيقة ، حيث كانت طلباته لا تنته ولا تعرف حدا إلى أن التجا إلى السرقة وسلب الناس اموالهم وممتلكاتهم باستمرار لإشباع غرائزه الحيوانية المتنوعة والكثيرة كتعاطي المخدرات ومعاقرة الخمرة والتهافت على بنات الهوى وغيرها ،فولج السجن أكثر من مرة لكنه لم يرتدع.
 ومع مرور الوقت، بدا في التفكير في الهجرة غير النظامية إلى اروبا عبراجتياز الحدود البحرية خلسة مقابل مبلغ مالي هام استحال على الخالة فاطمة توفيره رغم محاولاتها المتكررة تفاديا لمشاكله وافعاله التي لا تخطر على بال أحد من الناس. وكان يعلل ذلك جراء بطالته التي طالت وشعوره بالموت وهو حي وبالنقص والصغر أمام اقرانه وانداده وغيرها من التعلات الواهية التي اججت نيران الفرقة بينه وبين أسرته وجعلته يتمادى في العصيان والبطش والتمرد على الجميع دون خوف او ريبة، فكثرت المشاكل العائلية وثار ضده اخواته وبات الضرب والسب والشتم مشهدا يوميا واعتياديا في الحي.
- (الثالث وقد بدت عليه مظاهر التاسف والتأثر) استغفر الله العظيم واتوب اليه
- (كمال مواصلا) إلى أن جاء اليوم الموعود وتشاجر مؤمن مع أخواته وهددهم بالانتقام منهم انتقاما لا يخطر على بالهم وغادر إلى وجهة غير معلومة الشيء الذي جعل احد الأبناء يهاتف الخالة فاطمة ويعلمها بتفاصيل الحادثة وهي تعمل في إحدى بيوت اعيان المدينة حينها، فتركت ما بين يديها وهرعت جريا في اتجاه المنزل دون أن تستأذن من مشغليها أو تحصل على إذن للمغادرة.
 بينما أكثر مؤمن من تناول المخدرات على غير العادة وعاد إلى البيت ليكسر كل ما يعترضه من اثاث وعتاد وحتى الأبواب والنوافذ وبعض الجدران الأئلة للسقوط ، فجعل البيت حطاما وخرابا قبل أن يعتدي على من فيه بمن فيهم اجداده وفر من حيث أتى مجددا. فوقع الاتصال ب"المجاهدة من جديد لاخبارها بما حدث مما جعلها تهاتفه فورا وتتوعده وتهدده وتسبه وتشتمه وهي تعربد وتبكي وتصيح، واتفقت معه في النهاية على الالتقاء امام الحديقة العمومية (أين اغمي عليها اليوم)، وغيرت اتجاهها لتلتحق به قصد القصاص منه بعد أن اتلف تعب السنوات وجعل الجميع بلا مأوى او مصير في ظل هذه الظروف الجديدة بعد هذا الحادث المشين. (يصمت كمال لابتلاع ريقه واخذ نصيب من الراحة)
- (الأولى باهتمام) واصل السرد يا كمال فقد اشتقنا إلى معرفة بقية الحكاية. (والكل يضحك)
- (كمال متماسكا) وما إن أطلت على الحديقة الفسيحة حتى لمحت ابنها قادما نحوها وهو يسكب على جسده كميات كبيرة من البنزين بانتظام وهو يصيح ويعربد ويسب ويشتم ويقول لها بأعلى صوته مستعينا أحيانا بعبارات بذيئة وقبيحة "تريدون التخلص مني؟ بات وجودي يزعجكم؟ سئمتم تصرفاتي؟ غاضكم ما خسرتم من اثاث ولم تغضكم خسارتي وفراقي؟ ساترككم فضيحة أمام الناس، بل اضحوكة بينهم بعد أن رفضتم مدي بالمال لاعيش مثل غيري بعيدا عن هذا الوطن الميت" وغيرها من العبارات، وكانت تتوسل إليه ليكف عن صنيعه ويرجع عن قراره المجنون، لكنه أصر وواصل سكب المحروقات على جسده والناس ترهب الاقتراب منه وصده خشية الاحتراق واكتفوا بالنهي والنصح والإرشاد شفويا مما زاد من عناده واصراره على المضي قدما نحو تنفيذ ما نوى فعله دون تردد أو ريبة ، إلى أن استل الولاعة - وقد اقتربت الخالة فاطمة منه كثيرا وكادت تلتصق به - واشعلها، فتكونت في لحظة كومة من النار التهمت جسده وهو يصيح الما وحرقا "انقذيني اماه، لا اريد ان أموت"، وكانت تصيح وتطلب النجدة وتقول له "أجر نحو التراب وارتم عليه بسرعة يا فلذة قلبي"، واتجه صوبه الناس لاعانته علي اطفاء نيرانه وتخفيف مصاب الأم، لكنهم لم يفلحوا في ذلك فقد احترق بالكامل إلى حد التفحم رغم وصول فرق الحماية المدنية والاسعاف وغيرهم وقيامهم بما يمكن القيام به في مثل هذه الحالات، فقد غادر مؤمن الحياة تاركا اللوعة والألم في قلب هذه الأم التي شهدت احتراق ابنها امام أعينها وعجزت على انقاذه والتخفيف عنه . 
ومنها،تشتت العائلة وتفرقت رغم تكاثف الجهود من أجل لم شملها من جديد وارجاعها لما كانت عليه قبل هذا الحدث الجلل على الاقل، لكن الأبناء تركوا الحي ولم يعرف مصيرهم ولا توجههم إلى اليوم، فيما اصاب الاب شللا تاما وفقد حاسة النطق والحركة ، وبقيت الخالة فاطمة تجاهد وحيدة والأمراض والمصائب تحاصرها من كل جانب وصوب (والممرضتان تبكيان) ،تذهب يوميا إلى مكان الحرق وتتذكر تلك التفاصيل المقيتة التي تنال منها ومن جسدها إلى أن تفقد الوعي وتوشك على الموت والهلاك كما ترون ندما وتاسفا وحسرة على ما صار.

و مازالوا كذلك يخوضون في هذا الموضوع حتى رن جرس هاتفي فجاة بقوة إلى أن ارتعد بدني وخفت، فاذا بزوجتي تطمئن علي وعلى حالتي وتعلمني بسخرية واستهزاء أن ابني (ست سنوات) يهددها بحرق نفسه إن لم تمكنه من هاتفها ليلعب به قليلا قبل مجيئي، فاستقمت واقفا بسرعة وجريت جري عداء على مضمار السباق متناسيا نداء الممرضين والاداريين الذين منعوني من المغادرة سلفا، فسابقت الريح رغم التعب والالم ولم ألتفت إلى أية جهة أو شخص اتقاء الوصول إلى حالة الخالة فاطمة إن تراخيت أو توانيت في أخذ الأمور بجدية قبل فوات الأوان.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

مشاركة مميزة

تَبْكي العقيدةُ بقلم محمد الدبلي الفاطمي

تَبْكي العقيدةُ أمْستْ مُدَوّنةُ الإلْحادِ إصْلاحا  والجَهْل عَسْعَسَ بالظّلْماءِ طَوّاحا  والدّينُ حَرّفَهُ الأوْغادُ عنْ عَمَدٍ فأصْبَحَ ا...