=ذاكرة عمري الصغير=
(03)
(رسالة طويلة جدا ودموية جدا إلى صالح..)
كم شعرتُ بالحاجة إلى أغصان الاشجار أن تتحول إلى أدرع تلف لتحتضن جسدي النحيل المنهك، المنهار تماما.. و أن تتحول جذوع الأشجار إلى صدور بأحضان دافئة تضمني وتسلمني من غصن إلى غصن.. وتنقلني بعض مسافات وتقربني من حضن جدتي الحنون وحضن عمتي و أختي الكبرى التي طالما حملتني على ظهرها وتجولت بي في حديقة كوخنا الخضراء الغنية بالعنب، و الخضر والفواكه والبقوليات ...
تمنيت أن تتحول تلك النسائم التي تعبر عبثا فوقي إلى همسات رحمة وشفقة ورعاية، وتهمس لي: يا عزيزي الصغير ماذا فعلوا بك؟ همسة حنان أو لمسة، إن الطبيعة، يا صالح، لا تؤمن بالضياع ولا بالدموع ولا بالشهيق ولا بالعجز العميق.. أنا الذي كنت أعبر هته الطريق كعبور البرق من أعلى أسفل.. أتسلّقُ الاشجار مرة، وهنا آكل حبات الرياحين وهنا الضرو وهنا ساسنو.. وهنا أقفز فوق البرك العكرة، واقطعها خلال نصف ساعة ويمكنني تقليصها إلى النصف، ولم أكن أتصور أن السلّ يتربص بي بعيون نارية حاقدة لا ترحم..
والآن دارت الدنيا عليْ وخذلتني ساقاي وكل مفاصلي التي لم تعد لي بل عادت ندا لي، فمرّ نصف اليوم ولم أقطع بعد نصف المسافة.. إنها مسافة بين حدين لا حد لهما، أو حدين يمتد بينهما ألم، لا توجد لغة في هذا العالم يمنكها وصفه.. ألم أعمق من أعماق جسدي و أكبر و أوسع مني، مسافة تتمدّد كلّها آلما على كل المساحات الممكنة و مثلما أنا أزحف على جانبيّ.. بعدما انهارت قوى مفاصل ذراعي تماما وخيّل إليّ أنني سألقى حتفي من شدة العطش أو يخرج ذئب جائع من بين شجيرات الغابة الكثيفة عبر طرفي الطريق.. ويتناول عنقي المعفرة بالعرق والتراب والعشب وجبة طرية.. مالحة، يتناول الألم كله..
صوتي لم يعد صوتي بل بحّةَ ميتٍ لا يزال يعي أن صوته لا يصل أقصاه شفاهي... لماذا بكيت؟ ولماذا صرخت بكل قواي مناديا جدتي :آيمااااااء وأهدرت قدرة حنجرتي وصدري قبل أن أقترب أكثر و أصبح صوتي مجرد بحة أنفاس مبحوحة.. كم أنا غبي ينخرني المرض والوحدة القاتلة.. لماذا لم أتحمل وانتظر حتى اقترب وأصل أعلى المنحدر ثم أصرخ؟ ربما يسمعوني عندها أو يشعروني في أرواحهم أن شيئا ما هناك في أعلى المنحدر شيئا مؤلما جدا ومفجعا جدا ومسكينا جدا.. يستغيث.بصوت خافت عميق.. كم أنا وحيد بلا أم ولا أب ولا جد ولا جدة، بلارحمة ولا شفقة بلا عطف أو حنان ولا يد تمتد إليّ لتأخذني من هنا.. أنا اليتيم المنبطح الزاحف على هذه الطريق الجبلية الغابية الخالية إلا من كتلة عظامي الهشة المهترئة ينخرها السل بلا رحمة، وروحي التي تتعذب أيضا من ألم القهر والتعذيب (أنت تحتضر، أنت تموت ..إذهب إرحل و مت عند أهلك.. لا نريدك أن تموت هنا) .. ولحمي الذي أصبح مجردَ جلدٍ رقيقٍ يغطيني ويغطي مفاصلي المتورمة كلها.. حتى مفاصل أصابعي أصبحت بارزة جدا كلما نظرت إليها يزداد قهري وشفقتي على حالي ونفسي و تستجيب عيناي بالانهمار العجيب للدموع..
قال لي جدّي أن هناك ربّا خلق هذه الدنيا كلها رحيم.. وعندما ندعوه يستجب لنا فرحتُ أدعوه: عبّني من هنا وحطّني هناك.. وخيّل إلى أن الله لا يعرف الدارجة فرحت أدعوه بالفصحى أن ارفعن من هنا وضعن هناك.. فأنت خلقت العالم بكلمة, جدي قال لي ذلك، أنك قادر على فعل أي شيء فقط بالكلمات، ولن أطلب شيئا آخر ولن أتطفل عليك.. فأنت لديك الكثير من الناس والمخلوقات الأهم مني الذين يلبسون لباسا غير مرقع و أحذية غير مطاطية عفنة.. دعوته بكل الكلمات المتيرة للشفقة والتي تعلمتها من الكتب.. لكن الله لم يأبه لحالي وربما أنا لم أستطع أن أصف له حالتي المزرية وهو يظن أنني وأنا أزحف على هذه الطريق المحجرة المخددة القاسية.. مجرد مشاكسة طفل صغير يلعب.. حاولتُ أن أرفع وجهي إلى السماء حتى يرى دموعي فيحسُّ بي فيشفق قليلا علي ويلقي كلمة تنقلني، لكن عنقي انهكت تماما ومفاصيلها قد تهشمت هي الأخرى وأصبح جبيني بمثابة قدم لي أستعين بها في تقدمي بعض السنتيمات.. ثم شعرت أن الله لم يمرض أبدا.. أبدا.. أبدا.. أبدا.. ولم يشعر بالقهر أبدا والألام القاتلة أبداً أبدا والعجز القاتل لهذا لن يشعر بي وعلي أن أصل قبل نزول الظلام أو المطر إلى الذين سيهمهم أمري و سيرحمون ويعطفون و يرعون بكل ما أوتوا من قوة فهم بشر مثلي و أنا دمهم ولحمهم فلن أزيد آلامي بطلب المساعدة والرحمة من إله يسكن السماء لم يعرف يوما الألم في قدميه..
لو يعبر أحد من هنا كيف سأقف و أتظاهر أني بخير .. لم أرغب أن يشاهدني أحد على تلك الحال ولدٌ زاحفٌ بلا أهلٍ، لستُ في حاجة لشفقة أحد من الناس.. اشفقي أنت ايتها الأرض، أيها التراب أيتها البرك المائية أيتها الأحجار اشفقي. و اشعري بهذا المسكين العاجز الكسيح ولا أريد شفقة بشر.. نظرة شفقة واستغراب لا أريد..
لا يوجد شيء في الطريق لم أدعه ولم استعطفه، الأحجار فالناس في الجاهلية كانوا بعبدونها والآن ها أنا أعبدها و أدعوها واستعطفها ولا يهم لو أدخل النار فيما بعد فقط لو تستجيب و تحملني إلى داري البعيدة جدا.. أيها الحجر الأملس الصغير ساعدني على الوقوف والمشي اذهب عني هذا الألم وهذا العجز.. او احملن ها أنا امسكك ترفق فقط واسحبني قليلا.. قليلا فقط .. بلا رحمة كان الصمت قاسيا وعميقا وواسعا ومنتشرا.. والمسافة الأكثر قساوة لا تنطوي أبدا..
حتى أشجار البلوط الصديقة التي طالما تسلقتها والتي تقف متراصفة على جانبي طول الطريق لم تنحن لترفعني من ذراعي الموشكتين على الاهتراء لتسلمني لشجرة أخرى وأخرى لأخرى حتى تضعني البلوطة الأخيرة الأقرب أمام كوخنا الحنون، طيلة حياة عمري الصغير كنت أعتقد أننا يمكن نصادق الأشجار و أنا مستلق تحت ظلها في حر فصول الصيف.. في ذلك اليوم اختفت الرحمة عن الأرض وانقرض الحنان.. وصارت الدنيا كلها بلا قلب و بلا أمهات.. كلها صماء.. عمياء وحتى أنت يا صالح لم يكن لك وجود.. على الأقل لتمد يدك و تساعد ذلك الجسد النحيل وتجره وارءك على الأرض.. أو تجري الى هناك ليموت عند أهله.
لا أحد يسطيع البكاء طول اليوم إلا عمري الصغير، الذي لم يتبق فيه شيء ليعصره دموعا.. لا أحد سواي في هذا العالم الذي لا يرحم أحدا..
وانا أزحف على بطني، دخل في عيني اليمنى عود من شجرة ريحان.. آلمني جدا و أكملت الزحف الأكثر تثاقلا في اي انتقال بشري على الاطلاق، بعين واحدة وبلا قدمين وبلا ذراعين واصلتُ زحفي على ظهري و صدري وانقلب تارة على جانبي الأيمن و تارة على الأيسر...
أنا المطليّ المعفّر بالتراب والطين لا أستطيع أن أقول من رأسي إلى قدمي... فالواقفون فقط، و القادرون على الجلوس والمشي يحق لهم قول ذلك.. أنا مطلي من أمامي إلى خلفي، أمامي رأسي وخلفي قدماي الميتان تماما والمؤلمان حد الموت بالكاد أتقبلهما و أنا عاجز حتى على سحبهما خلفي..
هل تعرف يا صالح لماذا لم أستسلم ولم أترك بقايا جسدي للضياع والموت لأنياب الدئاب والضباع والكلاب المتشردة والقطط الجبلية ألما و عطشا؟ لم يقدر جسدي العليل على الشعور بالجوع حتى، فقط العطش فكل مياه جسدي سالت كلها دموعاً وعرقاً
لم استسلم لأني كنت ارى وجه جدتي و أسمع صوتها و أخيرا سأترك كلّي بين ذراعيها الرحمين و أموت.. وجه جدتي الرحمة الوحيدة التي أطلت من نافذة في السماء..
هل تعلم أننا عندما نكبر. ونصبح رجالا راشدين لا نتمكن أبدا من البكاء لا نعود قادرين مهما حاولنا أن نفرغ ما في صدورنا المثقلة بالأسى و أحزان العمر على ذرف الدموع، ربما لأنها غالية جدا عندنا نحن الذكور.. لكن بالنسبة لي كلما رغبت في البكاء و استعصى .. أتذكر عمري الصغير وتلك الطريق طريق الإباء فأصير طفلا صغيرا تنهمر الدموع وتبلل وجهه وجهي و تتورم عيناي في عينيه و أنام تاركا رأسي على الوسادة المبللة المضمخة برائحة الملح، تلك الدموع الباردة المؤلمة جدا..
أتعرف يا صالح أن أقبح شيء في الوجود؟ أقبح شيء في حياة المرء هو أن تكون لك خالة.. ما أتفه الخالات و ما أحقرهن كأنهن ولدن ليكونن عاهرات حقيرات قبيحات.. لينتقمن من وجودك كبشر قابل للعيش في الجحيم ليكونن صورة مجسدة للحقارة والقذارة والشر. يستكثرن ذلك الحيز الصغير الذي تشغله قدماك الصغيرتان على هذه الأرض ولو حتى في الجحيم ..
لا تستحق الخالات أن يلدن أطفالا
لا يستحقن أن يكون لهن مفاصل و عظام، لا يستحقن هبة الوقوف والمشي على قدمين..
هل رأيتني يوما يا صالح في حياتك كلها أحمل فاكهة اسمها كاسم خالتك؟
مرهم النيفلوريل، ذاكرة النيفلوريل..
ذكريات الألم والقهر عديم الرحمة، و ذكريات الشلل الموجع والمشقة والبكاء الطويل
يتبع
...../.....
بقلم: رابح بوصبيعة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق