الجمعة، 23 ديسمبر 2022

ذاكرة عمري الصغير ٤ بقلم رابح بوصبيعة

  ذاكرة عمري الصغير

                 (04)

(رسالة طويلة جدا ودموية جدا إلى صالح)


إعتقدت مع نفسي أني صديق هذه الطريق المنحدرة، صديق أشجار البلوط والرياحين والعلّيق والضرو وساسنو .. أنا صديق الربيع و فراشاته و أزهاره، شقائق النعمان والقرنفل و الكامليا والنرجس العطر..

أعتقدت أنها ستحتضن جسدي الصغير المنهك المتهالك حين آوي إليها منهدّا مطرودا بلا رحمة، هيكلي العظمي الذي تمنيت لو كان هيكلا من خشب أو حديد، لا يتألم.. أنا ذئب الغابة و ثعلبها، وعصافيرها المزقزقة الطائرة في كل مكان .. أصير كثلةً عظميةً معفرة بالتراب والطين والدماء والعرق والعطش والدموع؟!. يحزّ في نفسي أني شعرت بخيانة الطبيعة التي أحببتها حتى العظم الذي أصبح هشا ومؤلما.. لا يقوى على رفعي ولو لبعض الدقائق... ظننت كل شيء، كل شيء، إلا أن تخونني عظامي، إلا أن تتخلي عني الأرض والسماء .. ! من يحق لي إذن أن ألوم، اللحم؟ التراب؟ الحجر؟ الشجر؟ السماء؟ النساء؟ الرجال؟

هل يحق لي أن ألومك أنت يا صالح على خيانتك.. أم ألوم أخاك رفيق عمري الصغير الذي انشغل عن جسدي الطريح بطفولته..

ألوم النسائم تلفحني ولا تحملني من هنا إلى هناك؟ الرحمة التي ليست هي رحمة؟ والشفقة التي ليست هي شفقة؟ يكبر الطفل في داخلي يا صالح ولا يكبر.. لا يكبر.  إلا نحو طفولته ونحو والانحدار..

أتعرف يا صالح؟ عندما دخلت الجيش وكان البرنامج التدريبي الزحف تحت الأسلاك الشائكة وكان الأمر: وضعية الرمي منبطحا خذ.

انبطحت وانبطح عمري الصفير،كان هناك معي، عندما وصل وجهي الأرض و عيناي على مقربة من التراب الذي تتيره أنفاسي فيرتد وينتشر على وجهي الغارق بالعرق.. صرت هو، غزا هيكلي العظمي ألم، ذكرى الألم.. زحفت كعمري الصغير .. وكأنه النافذة، هي ذاكرة عمري الصغير بثقل ليس له مثيل زحفت و اغرورقت عيناي بالدموع و كنت في الطريق المنحدر والشوك والدماء من شدة الزحف على الحجر والشوك والأعواد.. وليس حقل التدريب .. إذهب لتمت عند أبيك.. لم أفق إلا وأنا أتلقى صفعة قوية من المدرب أعادتني شابا وجنديا من جديد.. وصوته أنت كالنساء الصبايا.. تبكي لم تستطع حتى الزحف كالرجال، عصرت عينيّ وفتحتما فوجدت وجهه أمام وجهي و همّ بصفعي مرة ثانية لم أفق إلا و أنا أمسك يده بقوة، ماذا تعرف أنت عن الزحف يا بن العاهرة.. لولا الزمن اللعين لاتخذتك غلاما عندي .. و كفي تضغط على معصمه بشدة لدرجة أنه صرخ من الألم.. من الصبية الآن؟ أممه من؟ لكنه بادرني هذا مجرد تدريب مجرد تدريب.. و تمتم: يا ربه كم هو قوي! كاد أن يهشم عظمي ساعدي، تركته يشد بقبضته على مكان قبضتي و يفرمها بكفه وأصابعه  ليبرد الألم ومحو آثار أصابعي التي تركت رسما أحمر بعدد أصابعي على معصمه...و غادرتُ المكان إلى الشاليه غسلت وجهي لكن دموع عمري الصغير كانت غزيرة جدا، كلما صفقت الماء إلى وجهي اغرورقت أكثر ولم أستطع إيقافها.. تنهمر و أصفق، تنهمر وأصفق فلم أعد أفرق بين الماء والدموع... مر كل شيء وكأن شيئا لم يحدث ولم يتحرأ أحد من الزملاء بعدها على سؤالي عما جرى.. سوى نظرات صامتة غريبة يكتنفها الحزن والغموض.. والاستفهام.. غير المشبع.. عبر الأيام..

كل أحضان العالم يا صالح ليست كافية لتعصرني وتخرج هذا العمر الصغير مني.. كل الدفء، كل الحنان الصادق منه والمزيف لن يعوضه عن دقيقة زحف واحدة وحيدا على الطريق المهجورة المحجرة المخددة الشائكة، ذات يوم شتائي سماؤه غائمة ولا تمطر إلا في عيوني.

              ..../.... 

        بقلم: رابح بوصبيعة


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

مشاركة مميزة

تَبْكي العقيدةُ بقلم محمد الدبلي الفاطمي

تَبْكي العقيدةُ أمْستْ مُدَوّنةُ الإلْحادِ إصْلاحا  والجَهْل عَسْعَسَ بالظّلْماءِ طَوّاحا  والدّينُ حَرّفَهُ الأوْغادُ عنْ عَمَدٍ فأصْبَحَ ا...