الأمل
بقلم : ماهر اللطيف
كنا كلما ضاقت الدنيا بنا و اسودت في وجوهنا وفقدنا الأمل في اللحظة الموالية و استسلمنا للألم و الحزن و الهزيمة و نال منا الخنوع و الاقتناع بمرارة الواقع و قتامته وغيرها، استنجدنا بحكيمة الحي و منقذة سكانه الحاجة صبرية المعروفة برصانتها و حسن تدبيرها و تفكيرها و توجيه قاصديها و إخراجهم من حالة سلبية إلى حالة إيجابية مجانيا عن طيب خاطر و رحابة صدر.
فهي المعلمة المتقاعدة و الشاعرة المعروفة في وطننا الذي يهجر معظم سكانه القراءة و المطالعة و يعرض عن كل إبداع و خلق و إمتاع ، و المؤسسة لعدة جمعيات خيرية و معرفية و ثقافية في كافة أرجاء الوطن...
الحاجة صبرية التي زرناها آخر مرة منذ أشهر مضت و كان سليم ( شاب في مقتبل العمر سئم الفقر و الفاقة و طول فترة البطالة رغم تحصله على عدة شهائد علمية جامعية، و تقدم به العمر إلى أن بدأ الشيب يغزو شعر رأسه و هو أعزب يشاهد أنداده يتجولون مع زوجاتهم و أبنائهم أمامه يوميا و هو ينتظر منة أو مصروفا يعطيهه والده ليحتسي قهوة في مقهى الحي و يدخن بعض السجائر و هو يفكر في وضعه و سبل الخروج من مآزقه ومشاكله) محبطا، وهنا ، مستسلما و عازما على تنفيذ قراره الذي ارتآه في هذا اليوم و هو الانتحار، فقصصنا عليها حكايته وهي مجيدة الإنصات و التركيز قبل أن تقول وهي تتجه بالحديث لسليم:
- هل تعلم ما هي النافذة الصغيرة التي مهما صغر حجمها تفتح آفاقا واسعة في الحياة؟ (تمعن النظر فينا في انتظار جواب لم تتحصل عليه من أي منا) إنها الأمل يا بني
- (أنا مقاطعا بصوت مرتفع وبشدة) نحدثك عن الانتحار و وضع حد لروح بشرية بعد أن فقدت كل أمل في الغد، و انت تتغزلين بالأمل (مستهزئا) و نافذة و آفاقا و كلاما منمقا (وقد احمر وجهها و خجلت قبل أن تضحك و تأمرني بالصمت)
- إذن فلم تفهم قصدي بني، فصديقكم فقد الأمل في هذه الحياة لكنه لم يفقده في الحياة الأخرى التي يريد الذهاب إليها عبر الانتحار، هو يأمل و يحلم بوضعية مغايرة لوضعيته الحالية في فكره الباطني الذي يئس من قساوة الحياة المادية التي احتقرته و نالت منه وظلمها
- (سليم مقاطعا) صدقت يا حاجة، فالناس معادن تصدأ بالملل و تتمدد بالأمل و تنكمش بالألم و تنعدم بغياب العمل وهي المرحلة التي وصلت إليها
- (عبدالله و هو من أتراب سليم، متزوج و أب لطفلين يعمل مديرا بشركة خاصة في المدينة) الأمل شيء جيد سيدتي، و الأشياء الجيدة لا تموت أبدا، لكن سليم فقد الأمل و ضعف ضعفا شديدا جعله يهرع إلى أسرع الحلول و اسهلها و هو يعلم خطورتها ناهيك و انه سيخسر الدنيا و الآخرة
- (سليم غاضبا) لولا الأمل لما عاش مظلوم يا هذا، و ما صبري و تجلدي إلّا تشبث بهذا المصطلح الذي نفذت مدة صلاحيته عندي الآن بعد أن استهلكت كل طاقة للتحمل و التحدي
- (أنا مهدئا للوضع) العقل القوي دائم الأمل ولديه ما يبعث على الأمل باستمرار، و انت يا سليم رمز للقوة و تحدي الصعاب و الحمد و الشكر لله على كل بلاء و ابتلاء
- (عبد الله مواصلا) أحيانا يغلق الله سبحانه و تعالى أمامنا بابا لكي يفتح آخر أفضل منه، لكن معظم الناس (ويشير لسليم بيده) و انت منهم، يضيعون تركيزهم و وقتهم و طاقتهم في النظر إلى الباب الذي اغلق بدلا من باب الأمل الذي انفتح أمامهم على مصراعيه
- (سليم صائحا في وجهه) عن أي باب تتحدث أيها الأبله؟ اي باب أمل وقد سدت في وجهي كل الأبواب و أوصدت فبات النور ظلاما ينضاف إلى ظلام و سواد حياتي و أحلامي وانتظاراتي؟
- (الحاجة مقاطعة بصوتها الرقيق وهي تربت على فخذ سليم الذي يجلس بجوارها) باب الأمل الذي يقصده صديقك هو حضورك إلى هنا قبل الإقدام على الانتحار بني، فمجرد موافقتك على القدوم معهم و استماعك لهذا الحوار إلا دليل على استعدادك لشحن أملك و إعادة تشييده من جديد وفق أسس و معايير مخالفة لما كانت عليه قبل الآن. حضورك يدل على وجود تلك النافذة الصغيرة من الأمل
- (سليم مستفسرا) لم أفهم سيدتي؟ ماذا تقصدين؟ فقد وافقت على المجيء إلى هنا في انتظار حلول الساعة صفر و انسدال الليل موعد رحيلي، فشعاري هو الظلمة و السواد حتى في الموت
- (مقاطعة) هناك أمل حتى في الظلام، فأنت تعتقد في ذهنك و إن لم يبرز لك جليا في تفكيرك أن النور قادم لا محالة و إن كان بعد الانتحار. فالأمل بني موجود فينا إلى يوم الحشر حين ننتظر و نأمل العفو و المغفرة و نيل الجنان رغم تأكدنا من صعوبة تحقيق ذلك الأمل وفق ما قدمناه في الحياة الدنيا، و قس على ذلك.
- (عبد الله بصوت هادئ) أين يكمن أمل اليائس و المجروح و المظلوم وغيرهم؟
- (مبتسمة) اشتدي أزمة تنفرجي قد آذن ليلك بالبلج / و ظلام الليل له سرج حتى يغشاه أبو السرج / و سحاب الخير لها مطر فإذا جاء الابان تجي... كما قال ابن النحوي بني، ففي كل وضعية بائسة أمل و انتظار و حلم و عمل على تجاوزه و تغيير هذه الحالة بحالة أحسن. فاليائس ينتظر رحمة الله و المجروح و المظلوم و من وقعت خيانته و غيرهم يتسلحون بالدعاء و الصبر و يأملون و يحلمون بالقصاص من أعدائهم بعد تحقق الاستجابة من العلي الحكيم الذي قال "ادعوني استجب لكم"....
و واصلنا الحديث و الحوار و تبادل الآراء مع الحاجة صبرية إلى أن أظلمت الدنيا و حان موعد فراقنا و نومها بعد تناولها لعشائها و دوائها ، فخرجنا جميعا مبتهجين و فرحين وقد اعتقدنا أننا نجحنا في ثني سليم عن قراره، لكن هيهات، فقد فعلها المسكين قبل انبلاج فجر الغد متى عثر عليه مشنوقا في جذع شجرة باستعماله حبلا غليظا و متينا احكم خنق رقبته إلى الموت
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق