الحلقة السابعة عشر
لوحة ثمانية الأبعاد
ماذا احضرتم من وأجب بيتي لهذا اليوم ؟
أعيد عليكم منطوق سؤال مادة مرسم الفضاء ليوم أمس
مطلوب منكم عمل لوحة ثمانية الأبعاد أي يدخل فيها ثمانية أشياء نتفاعل معها فلكل بعد منظور نتعامل معه من هواء ، ماء ، نار ، تراب ، زمن ، حب ، سلم وآخرها حياة .
ست لا نقدر أن نجمع النقائض في عمل وأحد ؛ أكيد ستتقاتل فيما بينهما ، القوي يأكل الضعيف والعمل سيفنى في النهاية ؛ الماء يخمد لهب النار و السلم لا يستطيع احتواء الهواء في ذرات التراب حين الحرب!
إنها تركيبة صعبة المنال !
ماذا عنك صيام ؟
ست قد صنعتها ؛ فقد أوقفت الحب في زمن الحياة وأخرجت لكم هذه اللوحة العَصْمَاء .
رسمها بعينيه كواحة ماء جافة وسط بيداء قاحلة ، أبصرها بعقله مثل نخلة خاوية بلا تمرُ وسط بستان محروق ، سقطت بيديه كسنبلةُ فارغةُ في حقل مهمل ، عرفها بحلمهِ شمس غاربة وسط سجن معدوم ، شاهدها ببصيرته دستور نائم وسط دار عدالة مكبلة ، دمعها بعاطفته كقبلة عابد وسط معبد مهجور ، عشقها بقلبة كفتاةُ عارية في دار بغاءٍ مغمور ، عطشها خمرة كأس وسط محل بابه معمور ، هرب منها كقنبلة موقوتة وسط ساحة حرب مدمرة ، خاف منها كدمعة يتيم باكية في دار فقرٍ منكوب ، تلعثم قرأت كلماتها في مدرسة علم مقفلة أبوابها ، سعلها كشراب مُزَيَّف مِن دار شفاءٍ بَاهِظة ، تفتت بيديه كطوب بناءً رَدِيء من جدار بيت مواطن مديون ، قضم طرفها كرغيف خبز عفنُ عند مخبز رغيفه مغشوش ، خفت بيديه كسلة طماطم وسط سوق ميزانه طَفِيفٌ !
أعتكف في صومعته وبكى بعد أن لملم بقايا صورها من أحاسيسه المرهفة ، وشكلها لوحة تجريدية مشكلة ؛ كأنها ثلاثية الأبعادِ !
مجسم فتاة ولكنه جرد مِن اللمسات، ليس فيها قلبُ، يدُ ،عقلُ ، لسانُ ، عينين ، شفتين ، أذنين ، قدمين، جلد ، جدائل، حواجب ، أنف ، فم ، ولا كاحلين، ولا أصابع، ولا، ولا، ولا .....فقد جردت مِن كل شيء!
وضع لوحتها وسط مركز المدينة كمعلم شامخ لها !
تعجب الجميع من جسدها الفارغ، فلا معنى لها ولا لون لها ولا شكلُ !
كأنها عصف طير فارغ تداعبه الريح من كل جانب!
نادوا عليه باستعلاء : لماذا تريد أخافتنا بجسدها هذا؟ أتحب أن تجلب النحس علينا في تعويذتك هذه أم أنك تريد سرقة السعادة مِن وسط بيوتنا !
تجمهر الناس حوله وقرروا أن يحرقوه وجسدها المرسوم ؛ فأجابهم بصوتُ قوي جدًا ؛ حتى أفاقوا مِن غفلتهم هذه !
لماذا تجنوا علي بأشياء لم أرتكبها ؟
فقط أبصرتها مِن خلال أفعالكم !
خذوا تلك الأقلام وهذه الأصباغ لترسموا لها ما فقدته مِن أحاسيس ! وحينها سانحتها لكم لتعرفوا شكلها وعندها نفذوا ما تشاءون فينا !
أدخلت الحجة بعقولهم؛ بينما نزلت الحيرة في نفوسهم،!
كيف لنا إن نرسم مالم نحط به علما ؟
وكيف نصبغ ألوانًا ونحن لم نبصرها من قبلُ؟
ظلوا بحيرة مِن أمرهم ،؛ إلى أن صعد مِن بينهم طفل يتيم؛ فأخذ قلم حبرٍ من يد كبيرهم ورسم لها قلب واذرف دموعه عليها !
هزت دموعه ذاكرتهم العمياء ؛ فتناولوا أقلامهم وأصباغهم وقاموا بتشكيلها.
فرسمت الفتاة لها وجهها، رسم المزارع شعرها والفلاح جدائلها، رسم القاضي عينيها، رسم رجل الدين انعكاس روحها ، رسم الضابط قدميها ، ورسم المعلم والمهندس والطبيب يديها ، ورسم عابر السبيل كاحليها ، ورسم الكاتب اصابعها والإعلامي فمها.
ثم أخذ احاسيسها من بين أقلامهم وقام بنحتها فشكلها تحفة فنية لفتاة في العشرين مِن عمرها كأنها الشمس في الضحى والقمر في الدجى، جميلة براقة يكاد جمالها يسرق عقولهم، فاتنة تسر الناظرين.
فقال لهم ما أسمها ؟
نطق الجميع من غير وعي كأنهم سكارى إنها الدنيا !
فبكى كلًا منهم على دنياه ؛!
رجعوا إليه وهم يكفكفون دموعهم بأكمامهم وقالوا له : لماذا لا تبكي معنا ؟
فقد بكيت قبلكم : أني أنا الوطن.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق