قصة حقيقية
أحياناً كنت أزور دير مار يعقوب المقطع في قارة/ ريف دمشق...
تلك المرة، صادفت سائحين، شاب وصبية، تعارفنا وتكلمنا الإنكليزية المريضة، فهمت بأنهما طالبان في كلية التاريخ والآثار أتيا إلى سوريا من ألمانيا، لزيارة بعض الأديرة والكنائس القديمة، ومعاينة أيقونات فيها، ومنها دير مار يعقوب المقطع هذا، وأيقونات في كنيسة القديسين سيرجيوس وباخوس في قارة أيضاً.
كان الطالبان مذهولين، بروعة دير مار يعقوب المقطع وأحجاره التي تنطق بالتاريخ... دير يجعلنا نعي كل ما كان يفعله الرهبان في ذلك التاريخ القديم، أين يصلون، ماذا يأكلون، ماذا يفعلون في حياتهم اليومية... كيف كانوا يختبؤون في مغر تحت الأرض، خشية بطش الرومان الذين كانوا يحاربون المسيحية آنذاك حيثما وجدت...
تم ترميم الدير تحت اشراف مختصين خبراء... أحضرهم المرحوم المطران إبراهيم نعمة، أسقف الأبرشية. عملوا وأبدعوا في إعادة الحياة للدير المذكور.
راق السائحان جدول النهر الرقراق النازل من جرود جبال لبنان الشرقية، مشكلاً نهرا صغيرا كان كبيرا يوما، يخترق الدير، يروي الأراضي الزراعية، وكان طاقة محركة تدير أحجار الرحى، لتطحن القمح حتى يصبح جاهزاً لصنع خبز التنور الشهي... كما يدير معصرة الزيتون فيستخرجون الزيت، ويملؤونه في خوابي مؤونة السنة، كما أعجب السائحان بالأجران المحفورة في الصخر التي كانوا يعصرون فيها العنب المقطوف من أراضي الدير الواسعة ليصنعوا منه الزبيب والدبس والنبيذ...
فعلا الخبراء المذكورين جعلوا التاريخ ينبض حياً في الحاضر، يشهد على حضور الرهبان يروي قصصهم، ويومياتهم بكل تفاصيلها...
كان السائحان يراجعان كتباً بحوزتهما ويطابقان المعلومات المدونة فيها مع الواقع الذي يعاينانه، ويبتسمان لأنهما يعايشان القديم جاريا في الحاضر... يشاهدان الوثيقة التاريخية الحقيقة كما هي، هذا ما جعل سعادتهما لا توصف...
كانا يعاينان كل شيء عن كثب، قالا جملة رائعة: ما أروع الحجارة التي تروي لنا قصة التاريخ، ونحن في أواخر الألفية الثانية...
السائحان طلبا مني: أن أرشدهما إلى كنيسة القديسين سيرجيوس وباخوس في قارة، وأخبراني بوجود أيقونة هناك نفيسة ونادرة من الأيقونات التي وصفوها من الكنوز التي لا تقدر بثمن...
في الحقيقة أنا لم أزر تلك الكنيسة يوماً، وحتى ولو زرتها لم أكن لأعرف قيمة تلك الأيقونة الموجودة فيها...
لمت جهلي، كيف لم أعر اهتماماً لتلك الأيقونات المسيحية التي توثق تاريخ المسيحية منذ سنواتها الأولى إلى يومنا الحاضر...الأيقونات التي تحكي قصة المسيح والمسيحية، وثائق تروي تاريخنا وهي معلقة في أغلب كنائسنا رسمها مؤمنون بعضهم من عاصر المسيح، وبعضهم من فهم المسيحية ورسمها بريشة من قلبه وروحه وإيمانه، وما فتئت مدارس الأيقونات ترسم وتسجل تاريخ الكنيسة، من العهد التكويني إلى يومنا الحاضر،
اضافة إلى الأيقونات نوه السائحان عن المخطوطات وتساءلا إذا كان في الإمكان مراجعة سجلات تاريخ الكنيسة لمعرفة أسماء أساقفتها وكهنتها وأسماء الذين أشادوها، وزمن اشادتها وكل الظروف التي كانت حينها.
قلت: هذا من شأن الأسقف ولا بد من استئذانه لهذا الأمر.
هذان السائحان جعلاني أشعر بالخجل، وجعلاني أرفض جهلي، قدما من آخر الدنيا ليزورا كنائسنا، ويعاينا أيقوناتنا وتاريخنا، وأنا ابن البلد أجهل الكثير عن تلك الكنائس، ومنها هذه الكنيسة سيرجيوس وباخوس والتي هي على مسافة ذراع من ضيعتي، تحسرت وضحكت بألم، وشر البلية ما يضحك. وقلت أنا الدليل السياحي الذي سأرشد السائحين إلى مكان هما يعرفانه، وأنا أجهل مكانه...
كانا يحملان كتاباً سميكاً عن صور الايقونات في كنائسنا، ومكان وجودها، وشروحات مطولة عن ماهية تلك الرسومات الفنية، ودلالاتها الروحية وأهميتها التاريخية، كانا يجريان مطابقة بين الموسوعة التي يحملانها، وبين الوثائق الموجودة...
فتح لنا رجل باب الكنيسة ودخلنا بفرح، فوجئا وشهقا وهما ينظران إلى الجدران البيضاء باستغراب شديد، ويتبادلان النظرات باستهجان.
قال الرجل بتفاخر غبي، نحن رممنا الكنيسة والبسنا الجدران ثوباً جديداً...
كانت الصدمة كبيرة عليهما، عندما اكتشفا بان الأيقونة التي يبحثان عنها، والتي تعتبر من كنوز الأيقونات ذات الأهمية الكبيرة حسب كتابهما، قد دفنها العمال دون الرجوع إلى مسؤولين،هكذا بحسن نية بالكلس الأبيض، أو الاسمنت الأبيض ظننا منهم بأنهم يرممون الكنيسة ويحافظون عليها...
اقفل السائحان كتبهم بانزعاج حقيقي، ولمحت نظرات أستنكار وحزن شديدين في أعينهما، جاءا من ألمانيا ليعاينا أيقونات ربما هي من أقدم الايقونات في العالم، ونحن دفناها بجهلنا بالجير الأبيض... لأننا جهلة لا ندرك أهميتها...
قلت لهما مازحاً، نحن طمسناها خوفا عليها من السرقة، ضحكا وانصرفا...
اقتنعت حينها بأن العلم نور، والجهالة مصيبة...
لاحقاً، سمعت بأن المسؤولين قشطوا الطبقة الكلسية عن الأيقونة، بتوجيهات من وزارة السياحة، أو ربما من مسؤولين الكنيسة بعدما فاحت رائحة الجهل...
بقلمي: عبده داود
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق