أحلام أنثى
الجزء الأول
قصة في أجزاء
في سبعينات القرن الماضي، كانت دمشق تعج بالسواح الأجانب القادمين من كل أنحاء الدنيا ليعاينوا الماضي الذي يعيش مع الحاضر...آنذاك كانت سوريا بلاد خير وفير، وصفوها أرخص دولة في العالم، هذا ما كان يجذب السواح، ويسعد الوافدين إليها... كانوا يشترون الأقمشة والنحاسيات والموزاييك بأسعار رخيصة...
ذات يوم، كانت سحر قادمة إلى منزلها الكائن في الحارات القديمة بين باب شرقي، وباب توما، استوقفتها جماعة من السواح الفرنسيين سألوها إذا كان بإمكانها أن ترشدهم إلى كنيسة حنانيا؟
قالت طبعاً هي بجانب دار أهلي، تفضلوا معي
ارشدتهم وشرحت لهم تاريخ الكنيسة، أقدم كنيسة في العالم مغارة تحت الأرض خوفا من بطش الرومان واليهود الحاكمين آنذاك، وذكرت لهم حضور مار بولس (شاول) الذي زار هذا المكان...
بعد الزيارة، دعتهم سحر لزيارة منزل أهلها واحتساء القهوة. بيت قديم من عمر التاريخ، بعد الترميم المدروس أضحى جماله أسطوري تتوسط ساحته السماوية بحيرة واسعة، يعتنون بنظافتها حتى تحافظ على رونقها، ويتمتعون باحتساء القهوة بجانبها، والملفت ترتوي منها العصافير التي تملأ الدار زقزقة... فتستيقظ العائلة على تراتيلها الصباحية وكأنها تمجد الخالق بنغماتها، الدار واسعة، تزينها أشجار النارنج والليمون والكباد وعلى أطراف الجدران تتعرش شجيرات الياسمين، التي تنعش الدار بعطرها إلى جانب شجيرات الفل التي تملأ المكان بالعبق الأصيل، وأريج ورد الشام الرائع...
استقبل أبو سحر وأمها وأختها هدى الضيوف بحفاوة
قال أبو سحر: أنا وزوجتي تقاعدنا من عمل التعليم، وهدى ستتخرج هذه السنة في الجامعة كلية رياض الأطفال، أما ابنتي سحر زينتنا وعصانا، طلب منها أبوها أن تعزف بعض الموسيقى على البيانو، قال: أكيد الضيوف سيسعدهم ذلك
عزفت سحر موسيقى (لأجل أليس) للموسيقار الكبير بيتهوفن. أبهرت الأجانب روعة الأداء الساحر... سألوها أين تعلمت هذا العزف المتقن؟
قالت في مدرسة الراهبات، كنت في الفرقة الموسيقية، ولأنني تخرجت في الجامعة في كلية الأدب الفرنسي بامتياز، أهداني والدي هذا البيانو...
قالوا: بالفعل تستحقين، لأننا لاحظنا قوة اللغة التي تتكلمين فيها. لغة متمكنة رفيعة المستوى، كما هو عزفك رائع جداً...
قالت أم سحر: ابنتي ناجحة، بكل المجالات، لكنها هذه الأيام تتعذب وتعذبنا معها، هي تبحث عن عمل تحبه، لا هي تعرف ما هو ذلك العمل، ولا نحن نعرف، قلنا لها أن تعمل في التعليم، مهنة راقية، بل هي أرقى الأعمال، وكما يقولون: كاد المعلم أن يكون رسولا...
يبدو كل الوظائف المعتادة لا ترغبها، والمشكلة هي لا تعرف ماذا ترغب. منذ تخرجت وهي تحاول أن تجد عملاً تحبه دون جدوى... رغم وجود وظائف شاغرة كثيرة في سورية، لكن سحر تبحث عن عمل يرضيها، وإذا سألها أحدهم ما نوع العمل الذي يرضيك يا سحر؟ كانت لا تجيب، وتبتسم لأنها هي ذاتها لا تعرف ما هو العمل الذي ستهبه حياتها...
قالت هدى: أختي كانت راغبة في دراسة الجغرافية، لأنها تحب حياة الشعوب، كيف يعيشون، ماذا يأكلون، ما هي لغتهم، عملتهم، عاداتهم...كل شيء عنهم، لكن نحن أقنعناها بدراسة الأدب الفرنسي، لأن سوق العمل أوسع لها...
قالت سحر: لن أهدر حياتي وراء طاولة خشبية، وأخسر حريتي، وأبيع أيامي وشبابي لقاء بعض النقود اتقاضاها في نهاية كل شهر...وتمضي الشهور، وتمضي سنوات العمر، وربما أموت وراء تلك الطاولة فيأخذونني، وربما يأخذون طاولتي معي، ويدفنوننا سوية...
أنا أبحث عن وظيفة أحبها، أعشقها وأجعلها حياتي، صحيح أنا لا أعرف ما هي تلك الوظيفة التي تجعلني سعيدة أرتبط فيها مدى العمر، عملا يملأ دنيتي بهجة وفرحاً، عملا يسكن كياني يسعدني، أحبه وأمضي معه الساعات الطويلة بشغف حقيقي، أعطيه كل ذاتي ووقتي، أقدم له عمري، وأكون سعيدة بعملي وقلبي تملأه الغبطة والفرحة،...أنا لا يهمنى الراتب أكان كبيرا أم صغيرا، الذي يهمني إن روحي تعشق ذاك العمل...
الأعمال العادية، تسرق مني زهرة شبابي، ويضيع عمري، وتستهلك السنون جسدي، ويذبل رويداً، رويداً، حتى أمسي عاجزة على حمل ما يصبو اليه طموحي، ويضحى الجسد منحنيا يرتكز على عكازة بالكاد تسنده... وإذ ذاك تتلاشى الاحلام وتموت الحياة.
اريد عملا، أنا لا أعرف ماهيته، ما هو شكله، أين يسكن ذاك الحب المجهول، ذلك الحلم المزهر...
السواح كانوا يصغون بانتباه إلى كلام سحر قال أحدهم: كلام رائع، سحر صبية ستنجح في الحياة، وسيكون لها مكاناً تحت الشمس...
قطع الحوار، دخول الأب ميشيل كاهن الرعية الذي يزور العائلة عادة حتى يلعب طاولة الزهر مع أبو سحر قال: أنا آت الآن من مدرسة الراهبات سألتني الريسة أن أرشح لهم معلمة قديرة تليق بمدرستهم، رشحت لهم سحر...
إلى اللقاء بالجزء الثاني
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق