الاثنين، 8 مايو 2023

أمي جنتي بقلم عبده داود

 أمي جنتي


عادت الأم من السوق. فتحت باب البيت بمنتهى الهدوء، حتى لا توقظ ابنتها النائمة.

 لكنها فوجئت بصوت ابنتها تتكلم على الهاتف بصوت مرتفع وبانفعال صاخب...

لم يكن من طباع الأم أن تتنصت على مكالمات ابنتها، لكن هذه المرة يبدو أن هناك شيئ مريب يحصل.

كانت الابنة تشكو على أمها إلى صديقها. تروى قصة عذابها ومعاناتها مع أمها المتسلطة. أمها دائمة الأوامر، أمها حاجزة حريتها. أمها تمنعها من التدخين، أمها لا تدعها تلبس الألبسة الفاضحة أسوة بزميلات لها... وأكثر ما حز بقلب الأم وصدمها عندما قالت ابنتها بأنها شاهدت أمها عدة مرات في السيارة مع الوسيط العقاري جارهم في الشارع، بينما لا يزال تراب أبي المرحوم ساخناً...مسكين والدي، رحل عن هذه الدنيا ولم يكن يدري بأن أمي سرعان ما تنساه... 

 وأضافت الابنة، بأنها تنتظر نهاية السنة الحالية، حتى تحصل على الشهادة الثانوية وسوف تبحث لنفسها عن عمل، وتغادر المنزل، بلا رجعة، لأنها لن تدرس في الجامعة لعدم قدرة أمها الصرف على ابنتها. وقالت هذه خسارتي الحقيقية، وينتهي طموحي في دراسة الطب بالجامعة، لكن عزائي   الوحيد سوف أتخلص من سجن أمي...سأتحرر من استعمار أمي، وتسلط أمي...

اغرورقت عينا الأم بالدموع، وخرجت من المنزل بمنتهى الهدوء كما دخلت اليه. حتى أعادت التوازن إلى ذاتها، وقرعت جرس البيت متظاهرة بانها تبحث عن مفاتيح البيت في حقيبتها ولا تجدها. 

اعتذرت الأم من ابنتها لأنها ايقظتها من النوم وطلبت منها ان تعود إلى نومها. إن أرادت ذلك...

 في يوم لاحق، سألت الأم ابنتها، أين هي صورة أبيك التي كانت معلقة على جدار غرفة الاستقبال، لماذا أنزلتيها من مكانها...

قالت الابنة بوقاحة: لأن سمسار البيوت حل محل أبي... 

تخرجت الفتاة  في المدرسة الثانوية، وجاءت  دعوة للأهل  من المدرسة لحضور حفلة تخرج أولادهم، وانتهاء مرحلة المراهقة والانتقال إلى مرحلة الشباب والجامعة...

الحفلة كبيرة، والناس عديدون، وأغلبهم جاؤوا في سيارات فارهة بينما الأم وابنتها جاءتا في الحافلة العمومية...

كان رفاق الابنة يتحدثون عن الخيارات الدراسية الجامعية،  والمفاضلة بين الجامعات وتخصصاتها. 

فتاتنا بقيت صامته ولكن قلبها كان يغلي غيرة وحسداً من زميلاتها، كم كانت تود أن تدرس الطب ولكن ليس في اليد حيلة...كانت تقول بنفسها عزائي سوف أبحث عن عمل ما وسوف أتخلص من سجن أمي... ولتذهب أمي إلى عشيقها سمسار البيوت...وتعيش حريتها معه في بيت المرحوم أبي...

ولم لا، لكل منا الحرية كيف يعيش حياته، أنا لي حريتي، وهي لها حريتها...

تقدمت الأم من ابنتها وقبلتها وتمنت لها مستقبلاً سعيداً. وقدمت لها ظرفاً وقالت: هذه هي هديتك شيك بمبلغ كبير هدية لك من أجل دراستك الجامعية...وأضافت الأم قائلة: لقد بعت البيت، الذي بنيناه أنا والمرحوم أبوك.  من أجل أن تخرجي من سجن أمك، وتنالي حريتك، وتستكملي دراستك الجامعية... كم أن شاكرة إلى سمسار البيوت جارنا، لقد تعب معي كثيرا   ونحن نبحث عن بيت صغير، وأخيرا وجدت طلبي غرفة صغيرة لأعيش فيها، تسع سرير إضافي لك إن أحببت أن تزوريني يومأ.

 فوجئت الابنة بكلام أمها، نحبت وبكت وقالت: سامحيني يا أمي، ظننت بأن سمسار البيوت هو الذي حل مكان والدي، كم ظلمتك، كم حقدت عليك، كم تعذبت أنا، وكم جرحتك   بجحودي... 

انهارت دموع الأم، الابنة مسكت بيدي أمها، واخذت تقبلهما باكية حتى بللتهما بالدموع، وهي تمتم بالكلمات سامحيني يا امي...أرجوك سامحيني، أنت حبيبتي، أنت جنتي...أنت ملاكي...أنت كل ما لي في هذه الدنيا. خسرت حياتك وسعادتك من أجل سعادتي...

ودعت الابنة أمها وقالت لها لا بد سأعود لزيارتك... كم أنا نادمة، لكنني عرفت كم أنت رائعة يا أمي...وكم أنا غبية حتى وصفتك بالسجن الذي يخنقني... بينما أنت الجنة بكل معانيها. 

سافرت الابنة إلى جامعة اختارتها... بعد أشهر عادت لزيارة أمها وبعد عناق حار امتزج فيه الفرح والدموع. قالت الابنة: نظرا لتفوقي في جميع المواد 

وافقني مدير الجامعة مشكوراً، أن يسجلني مقابل أقساط شهرية بدلا من قسط سنوي واحد، بعد أن شرحت له وضعي...

اشتريت  منزلاً بالمال الذي اعطيتني إياه  مؤلف من ثلاثة غرف، وسجلته باسمك،  سكنت  أنا في غرفة،  وجهزت الغرفة الثانية لك لتكوني معي يا ملاكي، وأجرت الغرفة الثالثة  لطالبة صديقتي  في الجامعة، ومن آجار بيتك الصغير هذا، ومن آجار الغرفة هناك نسدد اقساط المصرف  الشهرية ومصاريف معيشتنا،  وعندما أنهي دراستي في كلية الطب سوف أشتري لك أجمل منزل، لأنك ستبقين ملكة حياتي إلى الأبد. 

تخرجت الأبنة، واسعدت أمها  لكنها كانت تتألم كلما تذكرت بأنها جرحت أمها يوما بالصميم...

بقلمي: عبده داود

نيسان 2023


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

مشاركة مميزة

ذُل الـعـــرب بقلم محمود غازي درويش

💠 💠 ذُل الـعـــرب 💠 💠 من يشتري شــر الـعـروبــة والـعـرب؟! من يشتري عُـهـر ديـوثٍ مُـغْـتَـصـب؟! من يشتري أصنامـاً لا تُـحـرك سـاكـنـا و...