الأحد، 30 يوليو 2023

قطاف العنب بقلم عبده داود

قطاف العنب
قطاف العنب في ضيعتنا النبك/ سورية، يجري في أواخر أيلول من كل سنة...
 يقوم أصحاب الكرم بدعوة الأصدقاء والجيران لمساعدتهم في جني المحصول.
 يحضر المدعون في الصباح الباكر للمساعدة بهذه المهمة الجميلة، غالبا المدعون هم من شباب وصبايا أهل الحارة، يتناسب عددهم مع حجم الكرم الذي يراد قطافه... يقاس حجم الكرم بعدد الشجيرات (الجفنات) المزروعة فيه، فيقال مثلا ذاك كرم حجمه مائتان جفنة، وذاك الكرم ثلاثمائة جفنة وهكذا...
ينطلق موكب الجميع مع شروق الشمس إلى الكرم غالبا سيرا على الأقدام وهم يرتدون ثياب العمل شبه التنكرية...
 يعتمر الشباب أغطية قماشية واقية من أشعة الشمس يسمونها(السلك). والصبايا يعتمرن قبعات نسائية، من تلك القبعات التي كانت تأتينا هدايا مع أشياء أخرى، في طرود بريدية من أهالينا المهاجرين إلى أمريكا الجنوبية، وخاصة الأرجنتين، والحقيقة الصبايا كن يخجلن أن يعتمرن تلك القبعات في الأيام العادية... 
لوازم العمل كثيرة، كانت تحمل على الدواب التي تدب مع القافلة. 
دردشات ونميمة وأغاني وهرج ومرج، ونظرات حب وغزل بين الشباب والصبايا إلى أن يصل الموكب إلى الكروم... 
قديما لم تكن توجد غرف بمعنى الغرف، وإن وجدت فهي صغيرة مبنية من لبن وسقف بسيط... 
بينما اليوم امتلأت البساتين بالقصور الجميلة، وأخذ الناس يتباهون بمساحتها وسعتها وكسوتها وأنواع السيارات أمام مداخلها. بعض القصور أضحت مساحتها أكبر من مساحة أرضهم المزروعة...
عندما تصل المسيرة إلى الكرم، يقوم الشباب بنصب خيمة كبيرة يشدونها بحبال من الأشجار، إلى أعمدة وأوتاد يغرزونها في الأرض، ويفرشون أرض الخيمة بالبسط والسجاد ويصبح المكان مجلسا للجميع لاحتساء الطعام والقهوة والشاي والمته... بالمناسبة لم تكن المته معروفة عندنا كثيرا في تلك الايام. تعرفنا على المته بعد هجرة عدد من أهالينا إلى تلك الدول البعيدة طلبا للرزق وتحسين المعيشة... وهم الذين كانوا يرسلون لنا المته والمصاصات ويعلمونا كيف ننقعها ونشفطها امتصاصاً... 
طبعا أهم الأعمال في الكرم هي جنى العنب، وهذه المهمة كانت توكل إلى الشباب والصبايا. يحملون السلال، وكل فريق يستلم برحاً، والبرح هو رتل أو صف عادة مستقيم من الشجيرات ويقطفون العنب ويجمعونه في سلال، ثم يأخذون تلك السلال إلى ورشة التغطيس، وأنا اسميها تجاوزاً ورشة المعمودية... 
في تلك الورشة يقومون بتغطيس العنب في حلل أو معاجن كبيرة، مملوءة بالماء مضافاً اليه مواد حافظة، مثل القلو، وزيت الزينون ومواد أخرى حافظة لم أعد أذكرها الآن...
بعدها ينقلون العنب المغطس إلى مكان ممهد خصصوه لفرش العنب عليه حتى يجف تماماً، وحينها يصبح اسمه الزبيب...
يحفظون قسماً من الزبيب لفاكهة الشتاء، والقسم الآخر منه يأخذونه إلى المعاصر لتصنيع الدبس وهو من المأكولات الحلوة اللذيذة الشتوية... 
السيدات في الكرم، كانت وظيفتهن تحضير الطعام للمجموعة، وجبة فطور خفيفة عادة من خبز التنور ومأكولات خفيفة مع الشاي،غالبا بين الساعة التاسعة، والعاشرة يرتاح فيها العاملون من العمل قليلا، ثم يعاودون نشاطهم في جني العنب وتغطيسه وسحطه...
الوجبة الدسمة بعد الظهيرة، غالبا كانت الدفين، والدفين عبارة عن قطع لحم الخراف يطبخ مع البرغل في طنجرة أو حلة كبيرة توضع فوق نار هادئة حتى ينضح الطبيخ بهدوء ثم يغطس الطبيخ بالسمن العربي الأصيل... 
عند العصرية، والعصرية كلمة جاءت من وقت العصر، يتوقف العمل ويجتمع الجميع للغذاء وبعده يشربون القهوة والشاي وما شابه، يقمن الصبايا بتصنيع التبولة... ومن منكم أصدقائي لا يعرف التبولة...هذه الخلطة من الخضار والبرغل والليمون التي لا تزال إلى اليوم هي الأطيب والأكثر انتشاراً وشعبية في سورية ولبنان...
إذا لم ينتهي العمل بذات اليوم... يعودن أو بعضهم للعمل في اليوم التالي...
أحيانا، عند الغروب، بعد نهار عمل متعب، كانت أغاني فيروز هي المفضلة عند الشباب والصبايا وخاصة أغاني الحب اتذكر منها مسرحية (سهرة حب) لأنني كنت أحبها ولا أمل من الإستماع إليها...
يعود الموكب إلى الضيعة فرحين متعبين ويستعدون ليوم آخر غالبا في حقل آخر...
بعد الانتهاء من عملية قطاف العنب، يأتي المعفرون، للتعفير، والمعفرون هم أغراب عن البلدة غالباً، يبحثون عن بقايا عناقيد أو خصلات عنب غير مقطوفة من جفنات الكرمة، لم ينتبه اليها من سبقهم، وهذه يعتبرها المعفرون مكسب حلال لهم. واهل الكرم يباركون لهم فيها...
والجميل أثنان القطاف كانت تتم اتفاقات حب بين بعض الشباب والصبايا لذلك أيلول وتشرين الأول يعتبران شهري الحب المميزين...
وكل قطاف عنب وأنتم بخير...
كاتب البانوراما: عبده داود
تموز 2023


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

مشاركة مميزة

أحيانا تمر بنا لحظات بقلم إغراء أحمد بدور

أحيانا تمر بنا لحظات  نود أن ننفصل عن العالم أن نعيش في صمت كامل فنبتعد دون نقاش أوعتاب نبتعد لأننا اكتفينا من التعب  تعبٌ أحال فصول حياتنا ...