المدمن والقطار.
القطار يجري بأقصى سرعته والسأم من عد الأشجار التي مر عليها القطار قتله ، فإلى أين يتوجه بنظره الآن بعد أن مسحت عيناه الركاب لأكثر من مرة عله يجد مقعدا آخر يجلس عليه ،فشخير الرجل العجوز بجانبه يعلو ويهبط كالبركان.
تململ في مقعده بضجر، فالرحلة طويلة ،ونفسه تعاتب الحال ، فهو يدرك في أعماقه أن السبب الحقيقي لشعوره بالضيق لم يكن شخير العجوز ،وإنما لشعوره بفراغ كبير ، فلا توجد بالقرب منه أو في مجال نظره حسناوات يملأ بمرآههن عينيه .
حاول النوم دون نتيجة ، حاول التفكير بمواضيع شتى، إلا أن كلا منها كان يهرب بدوره من رأسه ، فلا يوجد ما يثير اهتمامه من أمور و أحداث أو صور غير النساء ، اعتدل في جلسته ، أكل ساندويتش الجبنة ، شرب القهوة ثم..ثم ماذا..!!؟
لا شيء..لا شيء ، فحين يضرب الفشل يعم كالطوفان .وأصبح قتل الوقت بالنسبة له عملية صعبة بعد أن كان محترفاً ذلك الفن بإتقان !!!؟
فحياته مرت في منتهى الرتابة والبطء، وسقف طموحه كان محدودا بإرضاء مرؤوسيه في الوظيفة الحكومية التي لا تشبع ولا تغني من جوع. فقليل دائم خير من كثير منقطع وزواجه كان فاشلاً بكل المعايير وهو يعاني ولا يعاني منذ تركته زوجته بعد بضع سنوات من الزواج دون أن يدرك سبب ذلك لغاية اليوم ،مما سبب له خوفاً مقيماً من الارتباط الدائم بالنساء ،فاستعاض عن ذلك بشراء الجنس بصعوبة وندرة ودون إشباع ، فلجأ لممارسة ذلك في الخيال حتى تسيد خياله الواقع، وأصبح أحد أهم اسباب الحياة ،فالتكرار أصبح إدمانا، و الإدمان أصبح مصدر السعادة وسبب الآلام ؛فمع انقضاء اللذة ،كان يشعر بالوضاعة، فيجزر نفسه ويسقط في بئر الندم ليستسلم لعادته السيئة أو الجميلة _حسب الحاجة والحال _بعد عدة أيام.
وصل القطار إلى محطته النهائية ،وكان قد استنفذ كل آبار الصبر من التعب والترقب و الإرهاق ،وهو الآن على استعداد للقبول بأية امرأة ،وبأي مواصفات ، فهو لا يملك أيضاً رفاهية الانتقاء؛ فالعمر والشكل والجيب له احترام وله أحكام.
خرج من المحطة مجرجرا قدميه وكأنه يحمل تابوتا ممتلئا بأثقال العمر على كتفيه، إلى أن وصل شقته المتواضعة التي يئن أثاثها مثله من القدم والإهمال ،وما أن ألقى بجثته على سريره، حتى استغرق في النوم وكأنه شوال من الأسمنت أو التراب ،فهو لا يرغب بالتفكير بأي شيء بعد أن أنفق مدخراته لسنة كاملة املأ في إجازة مثمرة يحقق فيها بعض الصيد ليعود محملاً بالفشل والإحباط والهم.
مرت الأيام وهو على عادته، يتردد على المقاهي والمتنزهات والتجمعات عساه يجد ضالته في إحداهن دون جدوى ودون ملامح من النجاح ،فكلما وأينما رمى شبكته تهرب منها الأسماك،كبارها وصغارها ، رغم تعطره وحسن هندامه، وكأنما هي تدرك بغريزتها أساليبه ونواياه، أو تدرك ما لا يدركه هو، فهو إنسان خارج الزمان ، يعيش حلما واحداً بينما الناس تعيش الحياة، واستمرت حالته تنزلق من سيء إلى أسوأ حتى كاد يقتله الفشل ويقتله الخيال ، ولكنها الصدف التي تغير مصائر الناس أنقذته حين التقى بالمقهى في وقت متأخر من الليل بامرأة في أوائل الستينيات ،كل شيء فيها مستسلم للأقدار .
توطدت علاقتهما ،وانتهت بالزواج الذي ابتدأ بالآه والآهات والقفز على السرير وفي الهواء، لينتهي بعد سنة من الأخذ والعطاء، فقد حاولت أن تسعده بشتى الأساليب والطرق..منحته جسدها بكل تفاصيله ولكنه كان دائماً يطلب المزيد ،فخياله فجعان..كان يعاني من إدمان الخيال والواقع بالنسبة له دائما أقل جمالاً وتشويقا من الخيال.
عاد إلى عادته القديمة يبحث عن السعادة ليعاني الشقاء ،ولكن بشكل أشد، إذ كان يحن لزوجته الأخيرة، ويمنعه الكبرياء من الاعتراف. فقد حشر نفسه في حلم واحد أخذ يشدد الحصار عليه بينما قدراته على تحقيقه في اضمحلال ، فالجسد يضعف ويترهل والحلم يكبر ويشتد ، فكمم راودته فكرة الانتحار التي كلما اقترب منها ابتعد عنها فهو إنسان عادي ..جبان يستغل خياله الخصب ليزين اللحظات القادمة بأمل كذاب ،وما كان يدرك أنه كلما توغل في الحلم كلما ازداد غرقا بالمأساة، وليلته الماضية كانت صعبة جداً شابها القلق والأرق وانعدام الانسجام. فكيف سيمضي غده وكيف ستمضي بقية الأيام.. !!؟
و بعد لأي وصراع نام على قرار بالترجل عن حلمه والعيش بسلام ، فجاب في الصباح التالي شوارع المدينة حتى حفيت قدماه ، شرب القهوة في أكثر من مقهى ، ودخن سجائر العالم لتحمله بدخانها للمرة الأخيرة إلى محطة القطار..!!
غسان دلل.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق