الأربعاء، 29 نوفمبر 2023

قطار مدينة الورود بقلم عبد الكريم علمي

قصة قصيرة: قطار مدينة الورود.

أمسى اليوم واصفَـرَّ قُرص الشمس، وأوشك أن يختفي وراء الأفق البعيد، وأماني منذ الشروق وهي في المحطة، تنتظر القطار الذي سيُقِلُّهَا من مدينتها إلى مدينة الورود، لقد تأخر القطار كثيرا وطال انتظارها، وفي المحطة خلقٌ كثير من مختلف الأعمار كلهن إناث، أحسَّت أماني بالقلق والملل والضجر مثل غيرها من المُنتظرات، وتسرب إلى نفسها شعور باليأس والأسى والقرف، وتكاد توقن أن القطار لن يأتي، ولكنها ما زالت تُمَنِّي النفس بالأمل الخادع، والسراب الباقع، أنْ عسى وربما ولعل...  

وقُرْبَ المحطة وبجوارها مناجم عديدة يتطاير منها غبار كثيف، وأصوات لانفجارات مُدوية تفطر القلوب، وتبث الرعب والإحساس باللاأمن، وأصوات الآلات تُصدر ضجيجا هادرا وتُحْدِثُ جلبة وفوضى مزرية ومقرفة، والمحطة تُعاني اضطرابا تنظيميا وفلتانا أمنيا، فالكلاب الضالة تجوب المنطقة طولا وعرضا بالليل والنهار، والمسافرات عرضة لأنيابهم الجائعة، ولهجمات اللصوص الذين يشنون هجماتهم عليهن بين الفينة والأخرى، ويسلبنهن مالهن وحليهن ومتاعهن، ففي هذه المحطة ينعدم الأمن تماما، وتنعدم الطمأنينة والإحساس بالأمن، فكم من مسافرة تعرضت للأذى والاعتداء الذي يُثبطها ويُثنيها ويعيقها عن المواصلة والاستمرارية، ويجعلها عاجزة عن السفر، فتنتكس وتعود أدراجها تعيسة كئيبة مُنكسرة النفس، وهُـنَّ يُخاطرن بأنفسهن لما يرتجينه من منفعة تُحدد مسار مستقبلهن ومصيرهـن، فالوضع والأمر عندهن إما أن تكون أو لا تكون، بل هي مسألة حياة أو موت... .
   
وإذ هن كذلك خرج عليهن مسؤول المحطة يسألهن باستغراب ودهشة عَـمَّ ينتظرن؟ فأجبنه بواقع الحال، فتنهد الرجل عميقا أسفا متحسرا يقلب كفيه ومُسترجعا ومُحوقلا، وقال لهن: ويلي عليكن، وويلي منكن، والويل لكن، إن القطار غادر منذ زمن طويل وأنتن تنتظرن مجيئه وتأملن حضوره؟! سألنه بتفجع  ومرارة: متى كان ذلك؟ فرد: حينما كنتن بأنفسكن مغترات، وفي ألحفتكن متدثرات، وفي عسل أحلامكن لاهيات نائمات، أما كنتن تدرين أنه يُغادر المحطة عند فجر النهار وليس آخره!؟ فموعده الفجر...، هيا عُدْنَ أدراجكن إلى بيوت والديكن فالقطار قد مضى، وهيهات عودته هيهات، فلا سبيل لإرجاع الزمن الذي مضى وانقضى وفات، فما فات قد فات، والذي فات مات، وما هو آت آت... . 

سألت إحداهن مُتبرمة وساخطة: أليس لهذا القطار البائس وقت محدد ومعلوم يحضر فيه؟
 
رد مسؤول المحطة بتجهم: كلا يا سيدتي، إنه لا يأتي إلا فجأة وعلى حين غـرة، دون موعد مسبق، أو إعلان يُتلى ويُعلق، حتى أن المجتمع يسميه قطار الحظ، فهو لا وقت لديه معلوم، ولا يوم للناس عنه معروف مفهوم، ولكن الأكيد أنه يحضر أول النهار فجرا وليس آخره، وليس فجر كل يوم ...، والمحظوظة هي التي يُوافق حضورها حضوره،
ويكتمل حظها بركوبه، وحسن اختيارها لمقعد جلوسها في رحلة سفرها السعيد إلى مدينة الورود، فتسافر طيبة مرتاحة.

والتي ظفرت بالقطار ولم تُحسن اختيار المقعد الذي يُلائمها ويُناسبها، فإنها تسافر قلقة مضطربة ويتنغص سفرها، ومن كانت هذه حالها في مثل هذه الظروف، فإن قوانين القطار إذا احتجَّت وشغبت، أن يُلقى بها خارجا تحت عجلات القطار الحديدية ليدهسها، وتنتهي حياتها بصورة دموية مأساوية مُرعبة، والتي تكظم غيظها وتصبر، فإنها ستواصل السفر حتى تصل المدينة، ولكن أبوابها سَتُوصَدُ في وجهها، ولن يُسمح لها بالدخول والإقامة فيها.

وفي هذه الحال إما أن تبقى وراء أسوار المدينة، تُعاني بؤس التشرد والضياع مُعَلَّقَةً بين الخيبة والأمل، أو تعود أدراجها بخُفَّي حُنين خائبة الرجاء، قد هَدَّها العناء والإعياء، وكل أمـرها يدعو للرِّثاء، كاسفة البال، متقطعة الأوصال، سيئة الحال، وقَـلَّ من أُلقي بها تحت عجلات القطارثم نجت، وقليلات جدا ممن نجون وأعدن الكرة، ووجدن المقعد المناسب وسافرن مجددا، وابتسم لهن الحظ وفزن بعد ذلك، ومنهن كذلك اللائي عثرن على المقعد المناسب والموافق، وسافرن سعيدات مطمئنات مرتاحات، ولكن ذلك لم يجلب لهن حياة سعيدة دائمة، وإنما كان الأمر مؤقتا، فعوادي الزمن وفجائعه كثيرة ومتنوعة، وبإحداها غير المتوقعة تقضي على آمال وأحلام الكثيرات.

افترق الحضور المتخلف عن قطار مدينة الورود، جميعهم مندهش حائر خائر، يندب حظه العاثر، غير راض لما آلت إليه الحال، ما بين كئيب واجم، وبين متذمر ساخط شاتم ، وبين متنقص للقطار وطاقمه وللذين سافروا ويُسافرون فيه، و بين مفجوع مولول لاطم، وبين لاعن للزمان الأجرب ولأهله سيئي الطباع، وفاسدي الذوق، وقليلي الخير، وناكري الجميل والمعروف...، كُلٌّ في طريقه.

بقيت أماني متسمرة في مكانها، باهتة حائرة لا تدري ما تفعل، اقتربت منها عجوز في الغابرين، قد انحنى ظهرها ورَقَّ عظمها، وشحب جلد وجهها وتجعد، تتكئ على عكاز وبالكاد تقوى على الحركة والمشي، سَلَّمَت وخاطبتها: مرحبا بُنيتي، منذ أن رأيتك لأول وهلة دخلت قلبي، فإن رأيت أن تُشاركيني مسيرة ما بقي من حياتي فمرحبا بك، سأتخذك صديقتي ونؤنس بعضنا بعضا، فالوحدة يا صغيرتي قاتلة ومدمرة، ولا عليك من العودة إلى بيت والديك، فإن اللواتي فاتهن قطار مدينة الورود، أو حتى اللائي ذهبن إليها ثم انتكسن وعُدن، لا يحظين بنفس قدر واحترام ومعزة من حضرن في الوقت المناسب وسافرن فيه، واتخذن من مدينة الورود إقامة دائمة لهن.

سألت أماني العجوز: وأنت يا جدة فيم حضورك هنا، وأنت غير قادرة على السفر؟ فتنهدت العجوز عميقا، وردت بنبرة حزن وأسى وقد أجهشت بالبكاء: أنا كنت مثلك يا ابنتي ومثل هؤلاء جميعا، ومثلهن فاتني القطار ذات نهار، وعبثا كان الأمل وطول الانتظار، والآن بعد أن شخت وهرمت، وعندما يستبد بي اليأس والملل والضجر، وتوشك الوحدة أن تقتلني وتعبث بعقلي وبروحي، فإنني آتي إلى هذا المكان للتنفيس عن خاطري، ولأتأسَّى بمثيلاتي، فعندما يرى الواحد منا أشباهه في أحواله، فإن نفسه تهدأ وتسكن وتتأسى.

وحتى أُهَدِّئ من روعك، وأُبَيِّنَ لك ما انزوى عن ناظريك وغاب عن فهمك، فما كل من سافرت في قطار السعادة سعدت، أو أدركت بُغيتها وحققت مُنيتها، فكثيرات منهن رجعن القهقرى، والرجوع ليس مثل الذهاب، فعودتهن تكون سيرا على الأقدام حافيات، والكلاب تنبحها في كل محطة تصلها، وفي كل مكان تكون فيه، والأخطار مُحْدِقَةٌ بها دائما، فاطمئني يا عزيزتي واهدئي، فأحيانا بل وكثيرا ما يكون التريث والتردد مع القعود، خير من سفر لا يحسن صاحبه في وسيلة سفره مكان القعود، ثم ينتكس ويعود.

قالت أماني لصديقتها ورفيقتها الجديدة: كم هي قاسية شروط قطار مدينة الورود معنا يا جدة، ولكن ماذا عن الذكور؟ ألا يسافرون في قطارنا؟ لماذا يسافر فيه الإناث فقط؟ 

ردت العجوز: الذكور يا ابنتي أفضل حالا ووضعا مقارنة بنا، فهم بحكم خلقتهم وطبيعتهم يستطيعون السفر إلى مدينة الورود راجلين إن شاؤوا أو راكبين، فوسائل تنقلهم إن عُدَّت لا تُحصى، دونما حاجة لاستعمال القطار البائس، والخضوع لشروطه المخزية والمذلة، والذي حطم آمال الكثيرات منا، وسحقهن تحت عجلاته دونما رحمة أو شفقة، وهم وإن انتكست إقامتهم في مدينة الورود، إلا أن الزمن لا يقسو عليهم بحجم قسوته علينا نحن إن فشلنا في تطبيق القوانين والالتزام بالشروط، ففي وضع أمتنا ومجتمعنا يقسو الزمان على إناثه في هذا الأمر أكثر من ذكوره، وهذا عائد إلى طبيعة المجتمع في عاداته وتقاليده، والخلفيات الذهنية والفكرية عنده، والمزاج المركب المعقد المتوارث لديه.   
  
رافقت أماني العجوز غير شاعرة بشيء، ولا مُكترثة بأي أمر، سوى أنها مصدومة مفجوعة بالحقيقة التي طالما تجاهلتها كثيرا، ولم تُولِهَا العناية اللازمة، إلى أن حل المحظور، وكذاك الدهر ذو صرف يدور، ووقع الفأس في الرأس، وكان النُّكْسُ والبأس، وانقلب الحال من السهولة واليُسر، إلى الشدة والعُسر، وانضمت رسميا إلى قوافل وجحافل من خاب رجاؤهم، وانتكست آمالهم، وتحطمت على صخرة الزمان أحلامهم، وضاعت أعمارهم، وضل سعيهم في هذه الحياة، بعدما كانوا يظنون ويحسبون أنهم يُحسنون صُنعا، فكثيرا ما كذبت على نفسها أنها متى أرادت السفر، فما عليها إلا الحضور للمحطة، وستجد القطار ينتظرها في أيِّ يوم تريد، ووقت ما تشاء، ولكن لا تنال النفس كل ما تريد من مُنى ومُبتغى، فكثيرا ما تهب الريح بعكس ما يُشتهى ويُرتجى ... .

                       بقلم: عبد الكريم علمي
                        الجمهورية الجزائرية

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

مشاركة مميزة

‏بنك القلوب بقلم ليلا حيدر

‏بنك القلوب بقلمي ليلا حيدر  ‏رحت بنك القلوب اشتري قلب ‏بدل قلبي المصاب  ‏من الصدمات ولما وصلت على المستشفى  ‏رحت الاستعلامات ‏عطوني ورقة أم...