بقلمى : د/علوى القاضى.
... هل الإدارة علم أم فن ؟!
... فى التسعينات وخلال عملى بأحد السفارات العربية بالقاهرة حكى زميلى العائد من دولة عربية وكان يفتخر بأنه يحمل درعا من الفضة الخالصة ذو القيمة العالية ، إستلمه فى حفل بهيج مع شهادة تقدير موقعة من وزير الأوقاف شخصيا ، واستلم أيضا شيكا بمبلغ مائة ألف دينار ، وحينما سألته عن السبب ، كانت صدمتى التى كادت أن تودى بحياتى حينما قال لى أنه ابتكر فكرة ( حفظ أوراق ومستندات الإدارات ، كل إدارة فى ملف ذو لون مميز وكتابة إسم الإدارة على كعب الملف ) ، وهنا هاجمنى المثل المصرى ( الجنازة حارة والميت كلب ) أعلى الله شأنكم ورفع قدركم
... حفل بهيج ودرع وشيك بمائة ألف دينار مكافئة لفكرة ممكن أن يأتى بها طفل مصرى ذو أربع سنوات
... يحدث هذا فقط في مجتمعاتنا العربية
... يروى أن ملكا كان يتفقد مملكته فمر على قرية ووجد أهلها يشربون من الترعة مباشرة ، قال للحاشية : أبقوا شوفولهم أي حاجة ولو حتى زير يشربوا منه ، ومضى ليكمل باقي جولته
... وهنا بدأت قريحة وزرائه تتفتق عن الأفكار والوسائل التى ينفذون بها وصية جلالة الملك
... كبير الوزراء فورا أمر بتشكيل لجنة مستشارين عليا برئاسته وينبثق منها لجان فرعية لوضع الخطط والتدابير اللازمة لتنفيذ أوامر جلالة الملك لشراء زير ووضعه على شاطيء الترعة ليشرب منه الناس
... وأثناء إجتماع اللجنه العليا تبادلوا الٱراء وبعد الموافقة ، انبرى أحد المستشارين وقال : فيه نقطة لم تدرج فى مهام الزير وهى هل الزير صناعة محلية أم مستورد فإن كان صناعة محلية فنعم بها ، أما إن كان مستورد فلابد من تكوين لجنة فنية فرعية يرأسها على الأقل موظف كبير لايقل كادره الوظيفى عن مدير عام لإستيراد قطع غيار الزير على أن يتم فتح مكتب للإستيراد و التصدير للبلد التى سيتم إستيراد الزير وملحقاته منها حتى لا نفاجأ بعدم وجود قطع غيار فى السوق المحلية وبذلك يتوقف عمل الزير ! ، هذا للعلم واتخاذ التدابير اللازمة !
... وبعدما تم تنفيذ التوصية ووصل الزير اقترح موظف ٱخر وقال : بس كده الزير يبقى أموال عامة وعهدة حكومية ، لذلك لابد من خفير يقوم بحراسته ، وكذلك لابد من سقا ليملأه كل يوم ، وبالطبع مش معقول خفير واحد ولاسقا واحد هيشتغل طول الأسبوع
... وعلى الفور قام كبير البصاصين للبحث عن خفراء وسقايين مناسبين من الشباب ذووا عضلات مفتوله وصحة جيدة ، ثم تم تشكيل لجنة طبية ( لجنة الخفر ) لفحصهم وتم صرف مكافٱت لأعضاء اللجنه
... وبعد أن تم فحصهم طبيا تم تعيين 6 خفراء وستة سقايين للعمل بنظام الورديات لحراسة وصيانة وملء الزير
... ثم انبرى آخر وقال : الزير ده محتاج حمالة وغطاء وكوز ، فلابد من تعيين فنيين صيانة لعمل الحمالة والغطاء والكوز وصيانتهم
... وهنا بادر موظف خبير ومتعمق فى الإدارة وقال : طيب و مين اللي هايعمل كشوف المرتبات للناس دي كلها ؟! ، لابد من إنشاء إدارة حسابية وتعيين محاسبين بها ليصرف للعمال مرتباتهم
... وهنا طفحت الألمعية الإدارية وجاء بعده من يقول : طيب ومين اللي هيضمن إن الناس دي هاتشتغل بانتظام ؟! لازم حد يتابعهم ويشرف على الخفر والسقايين والفنيين ، فتم إنشاء إدارة لشئون العاملين و عمل دفاتر حضور وانصراف للموظفين والعاملين
... ثم أضاف موظف كبير آخر : طيب لو حصل أي تجاوزات أو إهمال أو منازعات بين العمال وبعضهم مين اللي هيفصل فيها ؟ ، لذلك أرى أنه لابد من إنشاء إدارة للشئون القانونية للتحقيق مع المخالفين والفصل بين المتنازعين
... وبعدما تم عمل كل هذه الإدارات جاء موظف موقر تفتق ذهنه وكان ينظر للجالسين من فوق نظارته وكأنه يتفحصهم وقال : ومن يرأس كل هؤلاء الموظفين؟! ، الأمر يتطلب ندب موظف كبير بدرجة مدير عام ذو ألمعية إدارية ولا تفوته فائتة ليدير هذا العمل الشامخ والصعب والشاق
... وتم بالفعل تجهيز المبنى والإدارات وتم انتداب المدير العام وتم تشكيل مجلس لإدارة شئون الزير
... وبعد مرور سنه كان الملك يمر كالعادة متفقدا أرجاء مملكته فوجد مبنى فخم وشاهق مضاء بأنوار كثيرة وتعلوه لافتة كبيرة مكتوب عليها ( الإدارة العامة لشئون الزير )
... وحينما تفقد المبنى وجد فيه غرف وقاعات اجتماعات ومكاتب كثيرة ، كما وجد رجلا مهيبا أشيب الشعر يجلس على مكتب كبير وأمامه لافته تقول : ( مدير عام إدارة شئون الزير )
... فتسائل الملك مندهشا عن سر هذا المبنى و هذه الإدارة الغريبة التي لم يسمع بها من قبل ، فأجابته الحاشية الملكية : بأن كل هذا لتقديم الرعاية و العناية بشئون الزير الذي أمر به للناس في العام الماضي يا مولاي
... المفاجأة أن الملك لما راح يبحث عن الزير نفسه لقاه ( فاضي ومكسور وبجواره خفير وسقا نايمين وجنبهم لافتة مكتوب عليها : " تبرعوا لإصلاح الزير مع تحيات الإدارة العامة لشئون الزير"
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق