عباس أفندي رجل فقير، موظف بسيط، يتقاضى راتبا زهيدا، يقطن وزوجته وأولاده الثلاثة في حجرة أسفل درج إحدى عمارات المساكن الشعبية. أصيب ابنه بمرض غريب، استطاع أن يعثرعلى طبيب يعالجه؛
بعدما طاف هنا وهناك باحثا عن طبيب متخصص، حيث مرضُ ابنه الغريب. ـ دكتور، هل تستطيع علاج ابني النادر؟ ـ نعم، سأستطيع بإذن الله. ـ كم جنبها تريد؟ ــ ثلاثمائة جنيها. ذهل عباس أفندي من قيمة العلاج، فما كان عليه إلا أن ينتهج من حكومات العالم النامي نظرية ترشيد الاستهلاك؛ بعدما رفض رئيسه في العمل أن يمنحه قرضا، ولم يتمكن أن يستلف من أحد. طلب من زوجته أن تبتاع دجاجة كل شهر، بدلا من كل أسبوع، وأن تقسم الدجاجة إلى أربعة أجزاء على مدار الشهر، فكانت تطهو جزءا، وتضع البقية الباقية عند جارة لها تمتلك ثلاجة، حيث قام عباس أفندي ببيع ثلاجته، فقد فصل الكهرباء؛ توفيرا لفاتورتها، واستبدالها بشمعة يشعلها عندما يحل الظلام، ويخمدها بعد أن تنام البنتان لأنهما تخافان الظلام. كانت الأم تقسم الصدر بين البنتين وزوجها عباس أفندي، الذي كان يرفض بحجة أنه يعشق الملوخية اليابسة، التي كانت تطهوها الزوجة بقليل من المرق والكثير من الماء ودون ثوم وزيت، حيث كانت تدخر بقية المرقة؛ لتسخينها ووضع بقايا خبز بداخله، خوفا أن تستيفظ البنتان جائغتين. كان يطلب من البنت الكبرى أن تذهب يوما للمدرسة وتغيب يوما آخر، حيث تقوم أختها بارتداء ملابسها المرقعة في اليوم التي كانت تغيب فيه أختها الصغرى، ثم تذهب هي أيضا يوما وتغيب يوما آخر. اليوم التي كانت تغيب فيه البنت الكبرى؛ تذهب إلى صندوق القمامة؛ بحثا عن أي معلقات تبيعها؛ لتساهم في توفير الثلاثمائة جنيها. كان عباس أفندي يسير إلى عمله ذهابا وإيابا مسافة خمسة كيلو مترا منتعلا قدميه، حتى يوفر ثمن أجرة الحافلة التي كانت تقله من وإلى العمل. كان يسير تارة مرتديا الحذاء، وتارة أخرى يسير حافيا؛ خوفا أن ينقطع الحذاء، غير مكترث بالطريق المكتظ بالحصى والمسامير.كان يستحم في المسجد المجاور ويغسل ملابسه هناك، كانت تستحم زوجته وأولاده في الشتاء بماء بارد فقط؛ حرصا على توفير ثمن لتر الكيروسين وثمن الصابونة. كان القمل يزحف من رأس ابنتيه، حيث كان يوفر ثمن شراء زجاجة زيت لشعرهما. في جوف الليل؛ كان ينظر لابنه المريض ويقبل يده تارة، وتارة أخرى ينظر لبنتيه الهزيلتين ويبكي؛ بعدما قبل جبهة زوجته، والتي كانت تمتزج دموعها بدموعه.استغنى تماما عن وجبة العشاء، ونسف البيض والحليب من وجبة الصباح، اكتفى فقط بأربعة أقراص طعمية، قرصان لابنتيه، ويستغنى لزوجته عن قرصه من أجل الرضيع المريض، فكان يتناول نصف رغيف مغموسا بملح، أو بالزيت العالق بورقة الطعمية. في وجبة الغذاء كانت زوجته تطهو عدسا تارة، ومسقعة تارة أخرى، كانت تؤخرها إلى وقت الغروب؛ خوفا أن تستيفظ البنتان جائعتين، وليال عديدة كانت تضع الحصى الصغير في إناء ليلها الحالك. كان الزوجان يصومان يوما بعد يوم. كانت أسرته كلما مرت بالحارة، لا يكترث لها أحد، وقد تغيرت ملامحهم، فالوجوه شاحبة، الملابس بالية، الأحذية مهترئة، الرضيع ساءت حالته، انخفض مستوى البنتين الدراسي، ولم يعد يدر ثدي الأم. كاد يطير من الفرح؛ عندما وجد مع زوجته مبلغ الثلاثمائة جنيها؛ نتيجة لتطبيق نظرية ترشيد الاستهلاك. في طريقه إلى الطبيب لم يعلم هل وقعت الثلاثمائة جنيها أم سرقت منه؟ مات الرضيع.! وفي بضعة أيام تبعته أمه الصبور فالبنتان، ثم أبوه المكافح الفقير، ومن حينها وعباس أفندي صار كابوسا ثقيلا في أحلام سكان الحارة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق