نقد وتحقيق : د/ علوي القاضي
... ليس هناك عاقل ينكر أهمية وقيمة العلم والعلماء في بناء الإنسان والمجتمعات والحضارات والأمم على مر العصور
... ولذلك قال الشاعر :
.. بالعلم والمال يبني الناس ملكهم***لن يبنى ملك على جهل وإقلال
.. العلم يرفع بيوتا لا عماد لها***والجهل يهدم بيوت العز والكرم
... وكان لوصية الإمام (علي بن أبي طالب) رضي الله عنه ل (كميل بن زياد النخعي) تلخيصا وتدقيقا وتوضيحا لأهمية العلم والعلماء وتفضيل العلم على المال
... وقيمة العلم تكمل بفرعيه الأساسيين ، فهناك العلوم الدنيوية والعلوم الدينية بفروعهما المختلفة
... عن (كُمَيْلِ بنِ زياد النخعي) قال : أخذ أمير المؤمنين (علي بن أبي طالب) رضي الله عنه بالكوفة بيدي ، فأخرجني حتى إنتهينا إلى ناحية الجبَّانةِ ، فلما أصحَرْنا جلَسَ ، ثم تنفَّس الصُّعداءَ ، ثم قال : ياكُمَيْلُ بنَ زيادٍ ، إن هذه القلوبَ أَوْعيةٌ ، فخيرُها أوعاها ، فاحفَظْ عني ماأقولُ لك : الناس ثلاثةٌ : (فعالمٌ ربَّانيٌّ ، ومتعلِّمٌ على سبيلِ النجاةٍ ، وهَمَجٌ رَعاعٌ أتباعُ كلِّ ناعقٍ ، مع كلِّ ريحٍ يميلون ، لم يَسْتَضيئوا بنور العلم ، ولم يَلْجأوا إلى ركنٍ وثيقٍ) ، ياكُمَيْلُ ، العلمُ خيرٌ من المالِ ، العلمُ يَحرسُك وأنت تَحرُسُ المالَ ، والعِلمُ يزكو على الإنفاقِ ، والمالُ تَنقُصُه النفقةُ ، ومَنفعَةُ المالِ تزولُ بزوالِه ، يا كُمَيْلُ ، محبةُ العالمِ دينٌ يُدانُ بها ، العلم يُكسِبُ العالمَ الطاعةَ لربِّه في حياتِه ، وجميلَ الأُحدوثةِ بعدَ وفاتِه ، وصَنيعةُ المالِ تزولُ بزوالِه ، والعلمُ حاكمٌ والمالُ محكومٌ عليه ، يا كُمَيْلُ ، ماتَ خزَّانُ الأموالِ وهم أحياءٌ ، والعلماءُ باقون مابَقِيَ الدَّهرُ ، أعيانُهم مفقودةٌ ، وأمثالُهم في القلوبِ موجودةٌ ، هَا إنَّ ها هُنَا (وأشار بيدِه إلى صدرِه) لعلمًا جمًّا لو أَصَبْتُ له حَمَلَة ، ثم قال : بلى أصبْتُه لَقِنًا غيرَ مأمونٍ عليه ، يستعملُ آلة الدينِ للدنيا ، ويَستظهِرُ بحججِ اللهِ على أوليائِه ، وبنعمِه على عبادِه ، أو منقادًا لأهلِ الحقِّ لابصيرةَ له في أحنائه ، يَنْقدِحُ الشكُّ في قلبِه بأولِ عارضٍ من شبهةٍ ، لا إلى هؤلاء ، ولا إلى هؤلاء ، أو منهومًا باللذَّات ، سلسَ القياد للشهواتِ ، أو مغرمًا بجمعِ الأموال والادِّخار ، ليسَا من دعاة الدينِ في شيءٍ ، أقربُ شبهًا بهما الأنعامُ السائمةُ ، كذلك يموتُ العلم بموتِ حامليه ، ثم قال : اللهم بلَى ، لاتخلو الأرضُ من قائمٍ للهِ بحجةٍ إما ظاهرًا مشهورًا ، وإما خائفًا مغمورًا ، لئلا تبطُلَ حججُ اللهِ وبيّناتُه ، وكم وأين أولئك ؟! ، أولئك واللهِ هم الأقلُّون عددًا ، والأعظمون عند الله قدرًا ، بهم يدفع اللهُ عن حججِه ، حتى يؤدوها إلى نظرائِهم ، ويزرعوها في قلوب أشباهِهم ، هجَم بهم العلمُ على حقيقةِ الأمرِ ، فباشروا روحَ اليقين ، فاستسهلوا ، مااستَوْعَرَ منه المُتْرفُون ، وأَنِسُوا بما استَوْحَشَ منه الجاهلون ، وصحبوا الدنيا بأبدان أرواحها معلَّقة بالمنظرِ الأعلى ، يا كميلُ ، أولئك خلفاءُ اللهِ في أرضِه ، ودعاتُه إلى دينِه ، هَاهْ ، هَاهْ شوقًا إلى رؤيتِهم ، وأستغفِرُ اللهَ لي ولك ، إذا شئت فقُمْ)
... مما تقدم نخلص إلى نصيحة تكتب بماء الذهب ، كما قال الإمام على رضى الله عنه (العلم خير من المال ، فالعلم يحرسك وأنت تحرس المال ، نعم فالعلم يحرسك من الشيطان ، ومن النفس الأمارة بالسوء ، ومن غضب الله وسخطه عليك ، العلم يحرسك فتفعل مايأمرك به الله عز وجل ، وتنتهى عما نهاك الله عنه فيرضى عنك ، ويحرسك لتحيا حياة طيبة فى (الدنيا والبرزخ والٱخرة) ، ويحرسك فتعيش فى سعادة ، والعلم عبادة للقلب ، وهى الحياة الحقيقة للقلب الحى ، يحرسك من الشبهات والشهوات واللغو والكلام الفاحش والبذئ
... وإذا أجرينا مفاضلة بين العلم (النافع) والمال (عامة) نجد أن : العلم يحرسك وأنت تحرس المال ، العلم يزكو على الإنفاق والمال تنقصه النفقة ، العلم حاكم والمال محكوم عليه ، ومحبة العلم دين يدان بها ، (والمال ليس كذلك) ، العلم ميراث الأنبياء ، والمال ميراث الملوك والأغنياء ، والنفس تزكو بتحصيل العلم والحرص عليه ، الحرص على العلم والتعلم عين كمال العبد ، والحرص على المال وطلبه هو عين نقصه ، وهو يهلك الدين ، جميع الناس محتاجون إلى العالم في دينهم وليس صاحب المال ، العلم يُقَوِّي عند المرور على الصراط ، والمال يمنعه منه ، المال قد يحصل للكافر والمؤمن ، والعلم بالله وبدينه لاينتفع به ويحصل له إلا المؤمن الصادق ، حين الموت يترك الميت ماله وراءه ، والعلم يدخل معه في قبره ، لذة المال لذة وهمية أو بهيمية ، فقديفرح أحدهم بتكثير المال ، وهذه شهوة من الشهوات كشهوة النساء والبنين ، وقد لاينتفع به ولاينفقه ، ولكنه يفرح بزيادته حتى يصل مقادير لايمكن أن ينفقها مهما طال عمره ، العلم يكسب العالم الطاعة في حياته وجميل الأحدوثة بعد وفاته
... وإلى لقاء في الجزء الثاني إن قدر لنا ذلك وقدرت لنا الحياة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق