فلسفة الصمت 3
د / : علوي القاضي
... الصمت أحيانًا يكون أبلغ من الكلام ومحمودا ، لكن ليس في وجه الظلم ! حينئذ يكون مذموما ، فالساكت عن الظلم ليس محايدًا ، بل هو متدرب في مدرسة الظالم ومشارك فى الظلم ، هذه المقولة تذكرنا بأن الشجاعة ليست فقط في خوض المعارك ، بل في قول كلمة الحق عندما يخشى الآخرون وبالذات عند سلطان جائر ، أحيانًا الصمت أبلغ من كل عتاب
... ويكفيك من الدنيا أن يرزقك بشخصً ينتبه لصمتك ويفهمه أكثر من كلامك ، ولا يسأل عنك إلا إذا رأى يومه ناقصًا بدونك ، فإن كنت أنت ذلك الشخص ، فأنا أولى بالسؤال منك وعنك ، فالصمت يُسمع أكثر من الكلام ويلامس شغاف القلب أسرع من الٱذان ، ولأن الألم لا يُقال بل يُعاش ، فلا تؤاخذ نفسك ، إن كان حضورك لم يُشعرهم بشيء ، فأنت منهم كأنك لم تكن ، لكن عندي ، فغيابك له وجع البعاد وألم الفراق
... لذلك فقد علمتني الحياة ، أن لا أبيع هيبة الصمت بالرخيص من الكلام ، فالكلام كالدواء ، إن أكثرت منه قتل ، و إن أقللت منه نفع ، قد يخفي الصمت حيرة ، أو أنين ، وقد يكون حنين ، وقد يكون ألم
... علمتني الحياة ، أن الصمت أفضل جواب عن الأسئلة الموجعة المؤلمة ، فالإبتسامة الصادقة أفضل من الكلام المنمق
... قد يرى البعض أن تسامحي إنكسار ، وأن صمتي هزيمة ، لكنهم لا يعرفون أن التسامح يحتاج لقوة أكبر من الإنتقام ، و أن صمتي أقوي من أي كلام ، يكفيني الرد عليهم بـ (صمتي) ، فهو أبلغ من الكلام ، فالصمت لغة العظماء
... وللفلاسفة رأي في الصمت ، فماذا قالوا :
.. (دوستويفكسي) ، أعترف أن لساني يجيد الصمت جدًا لكن عقلي لا يكف عن الكلام
.. (نيتشه) ، إنه لأمر رهيب أن تلتزم الصمت بينما لديك الكثير لتقوله
.. (كافكا) ، أنتمي إلى الصمت العميق إنه المناخ الذي يلائمني
.. (غسان كنفاني) ، إن الصمت هو صراخ من النوع نفسه أكثر عمقًا ، وأكثر لياقة بكرامة الإنسان ، وضَجيجُ الصَّمتِ ، هُو الكَلامُ الثَّقيلُ الذِي لمْ يُقَلْ ، وبكاءُ القَلبِ ، هُو الحزنُ الذِي لا يندلِقُ مِن العُيونِ ، بل يَتراكَمُ فِي القلبِ حتَّى يُذِيبه
.. (يليه) ، ماذا نفعل إذا كان الكتمان مؤذي والبوح لا يغير شئ ؟!
. لا البَوحُ يُطفِئُ مَافي القَلبِ مِن *** وَجعٍ ولا الدُّموعُ تُسَلِّينِي فَتنهَمِرُ
. عَلِقتُ مَابينَ كِتمانٍ يُؤرِّقُنِي *** وبينَ قلبٍ من الخُذلانِ ينصَهِرُ
... ومن المؤكد أن الذي اختار الصمت سبق لهُ أن قال كل شيء ، من خلال هذه الكلمات يثير (دوستويفسكي) تساؤلا جوهريا ، حول حدود اللغة والقدرة على التعبير عن اعماق النفس الانسانية ، بالنسبة له ، الصمت ليس غيابا للكلام بل هو حالة تفوق اللغة في نقل الحقيقة ، ففي اللحظة التي يختار فيها الانسان الصمت ، يكون قد وصل الى مرحلة من الفهم والوعي بحيث لايعود الكلام قادرا على الإيفاء بما في قلبه وعقله
... وفلسفة (دوستويفسكي) تعني ان الصمت ليس تراجعا ، بل هو إعلان عن الوعي الكامل بالعجز أمام تعقيدات الوجود ، هو اللحظة التي يدرك فيها الإنسان أن هناك مالايمكن للكلمات ان تلمسه ، وأن أعماق روحه لايمكن أن تترجم إلا في غياب الصوت
... وقد يسأل أحدنا ، (هل الصمت أفضل أم الكلام ؟!)
... ردا على السائل قال الجاحظ (وليس الصمتُ كلّه أفضلَ من الكلام كلّه ، وليس الكلام كلّه أفضلَ من السكوتِ كلّه ، بل قد علمنا أنّ عامّةََ الكلامِ أفضلُ من السكوت ، والرواةُ لم يرووا سكوتَ الصامتين كما رووا كلامَ الناطقين ، وبالكلام أرسل الله أنبياءَه لابالصمت ، ومواضعُ الصمت المحمودة قليلة ، ومواضع الكلام المحمودة كثيرة وطولُ الصمتِ يفسدُ البيان ، وإذا ترك الإنسانُ القولَ ماتت خواطرُه وتبلّدت نفسُه وفسد حسُّه
... وهناك من الشعراء من ينصحنا
. تكلم وسدد ما استطعت *** فإنما كلامك حي والسكوت جمادُ
. فإن لم تجد قولا سديدا تقوله *** فصمتك عن غير السداد سدادُ
... تحياتي ...

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق