الكاتب. سامي المجبري.
في صباحٍ مفعمٍ بالصبر والذكريات، جلس إسلام على شرفته الصغيرة يتأمل الأفق البعيد، يمرر بين يديه كوب القهوة الذي صار صديقه الدائم منذ رحيل شهرزاد. لم يكن يدري حينها أن القدر يخبئ له فصلاً طويلاً من الصبر والاختبار، فصولًا كتبتها الحياة بمداد الدموع والتحدي.
كان إسلام زوجًا مخلصًا بكل ما تحمله الكلمة من معنى، يعمل جاهدًا لتوفير حياة كريمة لأسرته. لم يكن الثراء غايته، بل كان يكفيه أن يرى الابتسامة تعلو وجه زوجته وأطفاله الأربعة: عبير، وهنا، وعمر، وحسين. كانت حياتهم بسيطة، لكنها دافئة يغمرها الحب والتعاون.
غير أن الرياح لا تأتي دائمًا بما تشتهي السفن. بدأت ضغوط الحياة تتكاثر، والأعباء تشتد، ومصاريف الأبناء تزداد، والعمل يستهلك روحه يومًا بعد يوم. أما شهرزاد، فلم يكن قلبها صلبًا كقلب زوجها، ولا صبرها يمتد بامتداد الأيام العسيرة. راحت تشكو وتتذمر، ترى في كل تعب نهاية، وفي كل تأخير خيبة. كانت تظن أن السعادة تقاس بما في اليد، لا بما في القلب.
وذات مساءٍ باردٍ، حين عاد إسلام منهكًا من يومٍ طويل، وجد رسالة قصيرة على الطاولة:
> "لم أعد أستطيع الاحتمال... أحتاج إلى حياة أخرى، بعيدة عن هذا الصراع."
لم يصدق ما قرأه، ظنها مزحة أو لحظة غضب، لكنه حين دخل غرفتها ولم يجد سوى فراغٍ صامتٍ، أدرك أن الرحيل كان حقيقيًا هذه المرة.
رحلت شهرزاد، وتركت وراءها قلبًا مكسورًا وأربعة أطفال تتشبث عيونهم بأبيهم كمن فقد البوصلة. في تلك الليلة لم يبكِ إسلام أمامهم، بل ابتسم رغم انكساره وقال لهم بصوتٍ ثابت:
> "أمكم مسافرة قليلًا، وستعود عندما يشاء الله."
مرت الأيام، والأسابيع، ثم الأشهر. لم تعد شهرزاد، ولم تكتب، ولم تسأل. حاول بعض الأصدقاء أن يقنعوه بأن يبدأ حياة جديدة، لكنه كان يرد دائمًا:
> "زوجة جديدة قد تملأ البيت، لكنها لن تملأ فراغ الأم في قلوبهم."
حمل عبء البيت والعمل والتربية وحده. كان يستيقظ قبل الفجر ليعد الإفطار، ثم يوقظ أبناءه واحدًا تلو الآخر، يساعد عبير وهنا في تسريح شعريهما، ويتأكد أن عمر وحسين قد حضّرا حقائبهما. يذهب إلى عمله مرهقًا، لكنه يعود مبتسمًا ليذاكر معهم، ويصغي لقصصهم الصغيرة وكأنها أهم ما في الدنيا.
تعلم كيف يطبخ، ويغسل، ويخيط ثيابهم، ويتعامل مع أمراض الطفولة ومراهقة الشباب، وصعوبات التعليم. لم يكن أبًا فقط، بل صار أمًا، وصديقًا، ومرشدًا. ومع كل عام يمر، كان يشعر أنه يكبر سريعًا، لكنه لم يندم يومًا على اختياره الصعب.
كانت الأخبار عن شهرزاد تصل إليه بين الحين والآخر، عبر أقارب أو معارف. قيل إنها سافرت إلى مدينة بعيدة، وإنها تعرفت على رجلٍ أغراها بالمال والحياة المترفة. كل مرة كان يسمع فيها شيئًا عنها، كان يطوي قلبه على الصمت. لم يذكرها بسوء أمام أبنائه قط، بل كان يقول إن أمهم بخير، وإنها تفتخر بهم أينما كانت.
كان يعلم أن الحقيقة مرة، لكنه اختار أن يزرع في نفوسهم السلام بدل الحقد.
مرت السنوات، وكبر الأبناء، وبدأت ثمار تضحياته تنضج. عبير تخرجت من كلية الطب، وهنا درست الهندسة، وعمر التحق بكلية الحقوق، أما حسين فكان أصغرهم وأشدهم تعلقًا بأبيه، فأكمل دراسته في الاقتصاد ليكون عونًا له.
وفي ليلة من ليالي الشتاء، بينما كان يجلس يتصفح بعض الأوراق، طرق بابه أحد الجيران يحمل خبرًا كالصاعقة. جلس أمامه وقال بصوتٍ متردد:
> "إسلام... أعلم أن هذا صعب، لكن يجب أن تعرف. شهرزاد... قُتلت الليلة الماضية. طعنها رجل كانت تعيش معه."
ساد صمتٌ ثقيل، وشعر كأن الزمن توقف. لم يصرخ، لم يبكِ، فقط أغلق عينيه وتمتم:
> "رحمها الله، كانت أمًا لأولادي، ولها ما لها وعليها ما عليها."
في اليوم التالي، ذهب سرًّا إلى المستشفى ليتأكد. وقف أمام جسدها المسجى، نظر إليها طويلًا، وتذكر أول أيامهما، وابتسامتها حين وضعت عبير بين يديه، وتذكر أيضًا تلك الليلة التي رحلت فيها تاركةً وراءها كل شيء. دمعت عيناه، لكنه لم يقل إلا:
> "سلامٌ عليكِ يا شهرزاد... لعل الله يغفر لك ويجمعنا على خير."
عاد إلى بيته دون أن يخبر أبناءه بشيء. لم يرد أن يشوّه صورتها في قلوبهم، فقد كبروا على حبها الصامت، ورسموا لها في خيالهم صورة الأم الطيبة. تركهم يعيشون بهذا النقاء، مؤمنًا أن الحقيقة أحيانًا ليست واجبة، إن كانت ستكسر أرواح الأبناء.
ومرت الأعوام، وتزوج الأبناء واحدًا تلو الآخر. امتلأ البيت بالأحفاد والضحكات. صار إسلام الجدّ الحنون الذي لا تغيب عن وجهه الابتسامة. وفي كل مناسبةٍ عائلية، كان ينظر إلى أولاده بفخرٍ ورضا، ويشكر الله على ما آتاه من صبرٍ وثبات.
وفي مساءٍ هادئٍ، جلس على الكرسي الخشبي الذي رافقه منذ شبابه، يطالع صور أبنائه يوم تخرجهم، وزفافهم، ونجاحاتهم. شعر بدفءٍ يغمر قلبه، وابتسم قائلًا بصوتٍ خافتٍ:
> "ربِّ، لقد وفيت بوعدي... ربيّتهم كما أحببت، فاحفظهم بعدي."
ثم أغمض عينيه مستسلمًا لراحةٍ لم يعرفها منذ سنين، وكأن روحه وجدت أخيرًا سكونها.
وحين دخل أبناؤه الغرفة صباحًا، وجدوه مبتسمًا كما عهدوه دائمًا، نائمًا بسلام. ترك وراءه حكاية رجلٍ عاش الحب بأسمى معانيه، لا حب المرأة فقط، بل حب التضحية، وحب الأبوة، وحب الوفاء حتى آخر العمر.
لقد كان إسلام رجلًا أدرك أن النقاء لا يُقاس بعدد من أحبونا، بل بعدد من حافظنا على محبتهم رغم خذلانهم.
رحل بصمت، لكنه ترك إرثًا من العطاء والصبر والوفاء، قصة تُروى للأجيال عن رجلٍ كرس حياته لأبنائه، وعلّمهم أن الشرف الحقيقي هو أن تبقى نقيًا، حتى وإن خذلك العالم بأسره.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق