قريتي كانت وشاحًا ريفيًا، تتوسّد كتف الجبال الوادعة. حارتنا مِظلّةٌ لقهقهات الطفولة العذبة، وحاكورتنا نسخةٌ مُصغّرة من رحابة قلب الجدّة.
لم تكن لنا كروم زيتون وحسب؛ بل كانت مَعاصِرَ للصبر تقطرُ ذهبًا، ولا كرومُ تينٍ ورمّان؛ بل صناديقُ مواسمَ تختزنُها الحُبّات بأمانة. وجامعُنا كان نبعًا يغسلُ ضوضاء النهار بالسكينة، وإمامُنا حافظًا لأسماء القوم وسرّ الريح.
وذات فجرٍ، أطلّت الريحُ على خاصرة البلد؛ لا كضيفٍ يحمل غصنَ زيتون، بل كـغَريمٍ عَبُوس.
قالت الريح بنبرةِ الأمر: "افتحوا لي مضجعَ البوابة."
فـشَدَّ القومُ عصبَ البلد على مصراعها، وأوصدوا الأبواب كـإغلاق الناس صدورهم في وجه الفجيعة الغريبة.
راح الإمامُ ينسجُ تعاويذَ والناس خلفه مؤمِّنون؛ ظنّاً منهم أنّ الدعاء سُورٌ يصدّ صريفَ المخاوف.
لكنّ الريحَ العاتيةَ... زمجرتْ في حلقومها، ألقت بـصواعقِ غضبها، ثم أفرغت في الساحة رُكامَ المطر ووشْوَشَةَ الندم.
تحطّمَ قيدُ البوابة، وانْسَدَلَتْ الريحُ في شرايين الأزقّة كأنها تستوطن، فارّةً بنومِ الأطفال.
تشرّدتُ مع أبي. كنا نسيرُ على أرضٍ تفتّشُ عن مكمنٍ لآلامها.
سأل أبي الإمامَ بمرارة النازف: "بالذمة، هل كنتَ تستعيذُ منّا... أم من وَعِيدِ الريح؟"
فردّ الإمام بـصوتٍ يتهدّجُ كأذانٍ بعيد: "وأنتم، هل كانت قلوبكم تؤمّنُ وراء صَداي... أم وراء صَفِيرِ المجهول؟"
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق