في دُروبِ الغربةِ البعيدة، يَحمِلُ الشاعرُ بينَ أضْلُعِهِ مِفتاحًا قديمًا، ليسَ من حديدٍ بل من حَنين، يُثقلُ على الصدرِ كجمرٍ باردٍ من نارِ البعدِ. قطعةٌ صدئةٌ من مَعدنٍ نَحَتَتْهُ أيادي الشوق، لكنَّهُ ما زالَ يَحتفِظُ بِرُوحِ البيتِ الذي لم يَتَهَدَّمْ، ورائحةِ خبزِ الأمِ التي لم تَزل ، وكَلِماتِ الأبِ التي ما زالتْ تَرِنُّ كَوحيٍ في الأذن. إنّهُ صَوتُ وَصيّةِ الأبِ الأخيرَة: أنَّ الأرضَ لا تَعرِفُ إلا أصحابَها بالمفاتيح، وأنَّ الذاكرةَ المُصانةَ هي مِفتاحُ الوطنِ الحقيقيّ.
يَحمِلُهُ الشاعرُ كـوطنٍ مصغَّرٍ من وَرَقِ الغار، يَئِنُّ بهِ على أبوابِ الحُلمِ دونَ أن يَخْنَع، ليظلَّ شاهدًا أزليًّا على الحقّ النائم، ورنينًا حادّاً يُشبهُ نداءَ مُؤذّنٍ لِقَريةٍ مَحَتْها الخريطةُ، ولكِنّها لم تَغِبْ أبدًا عن سَجَداتِ الدُعاء والأمل. يَرسِمُ في الأُفُقِ البعيدِ خَطًّا من نورٍ للعودةِ، ويُبقي الأبوابَ مُشْرَعَةً على مِصراعيها، في انتظارِ يومٍ يَعودُ فيهِ الشاعرُ إلى عَتَبَةِ بيتهِ، ويَضَعُ المِفتاحَ في قُفْلِهِ، ويَفتَحُ البابَ على صوتِ الأمِ التي لا تزالُ تَنادِيه.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق