ذكرى و عبرة
بقلم:ماهر اللطيف
لن أنس تلك الحادثة الأليمة التي حدثت لي منذ ما يزيد عن عقد من الزمن في مثل هذه الأيام ونحن نستعد لإحياء عيد الإضحى المبارك على أرض هذه الدولة العزيزة على قلبي .
فقد وقع رفتي من عملي رفتا تعسفيا ولا إنسانيا من طرف مشغلي إثر تعرضي إلى حادث سير منذ شهرين جعلني شبه مقعد وغير قادر عن العمل، وقال لي حرفيا أمام جمع من زملائي بسخرية و استهزاء تمنيت لو ابتلعتني الأرض عن حضور ذلك المشهد "هنا مصنع للإنتاج والعمل لكل مجتهد ومتفان وليس جمعية خيرية لتبني المقعدين والفاشلين وإغراقهم في أموال لا يستحقونها ولم يبذلوا أي جهد من أجلها ، إذهب وأبحث لك عن مكان آخر يقوم بذلك أيها المعوق"...
فقفلت عائدا إلى منزلي بعد أن ودعت الجميع وأخذت منهم ما جادت به جيوبهم من مال وهدايا، فتوجهت في طريقي صوب دائنيّ ومددتهم بأموالهم، وبعضها بالنسبة لنزر منهم، ولم يبق لي حتى ثمن علبة سجائر، ناهيك وأني بقيت عاطلا عن العمل شهرين كاملين دون راتب أو مدخول مالي من أي مكان.
وما إن وطأت قدماي الحي حتى لمحت أبنائي الصغار الثلاثة يجلسون على عتبة المنزل وهم يراقبون أندادهم الذين يلعبون بأكباشهم ويلهون بهم تارة، يتسابقون بهم ويرغمونهم على خوض المعارك ضد بعضهم البعض لمعرفة أي الأكباش أقوى وأشرس طورا، ويمدونهم بالأكل والشرب تارة أخرى....
فارتمى في حضني "حسني" - وهو أصغر أبنائي - وشرع في البكاء بحرقة وهو يطلب مني بإلحاح أن أقتني له كبشا في الحال ليلهو به مثل أترابه، ومسكني "وسام" - كبيرهم - من سروالي وهو يتوسل لي لأجلب لهم كبشا، قبل أن يشد "عدنان" يدي اليسرى بقوة وهو يصيح ويستجديني لألا "أحتقرهم وأنقص من قيمتهم أمام أقرانهم" كما زعم....
فما كان مني إلا أن قبلتهم تباعا بشدة وأنا أطمئنهم وأهدئ من روعهم - وكدت أفقد وعيي من شدة الصدمة وهول هذا الموقف وطريقة الخروج منه و إرضاء فلذات كبدي دون أن أضر بغيري مهما كان... -
ثم تركتهم هناك وولجت الدار ولم أنتبه لوجود جارتنا منى بقرب زوجتي، فأطلقت العنان إلى البكاء بصوت عال وشرعت في الصياح والدعاء عسى الله يهديني إلى صواب الطريق، فأحسست بيد توضع على كتفي، فالتفت لأجد زوجتي التي ضمتني إلى صدرها مستفسرة عما حدث لي، وقصصت عليها ما حدث بصوت مرتفع سمعته بوضوح جارتنا التي كانت في فناء الدار...
فقاسمتني زوجتي الحيرة والصدمة والبكاء، وبقينا نفكر في مخرج من هذا المأزق الطارئ دون الوصول إلى حل في الحقيقة، وقد نسيت زوجتي منى التي طال انتظارها إلى أن غادرت المكان بهدوء دون أن ننتبه إليها البتة،وبقينا في حيرة واندهاش إلى أن حل الظلام وعاد الأبناء إلى الداخل ولم تحضر لهم أمهم وجبة العشاء مما زاد في غضبهم وعويلهم...
وبعد مدة وجيزة من الزمن ،طرق باب منزلنا طرقا قويا متواصلا إلى أن خفت وزوجتي وقمت مسرعا لأفتحه متى توقفت فجأة حين سمعت حسني يقول بكل ثقة في النفس :
- سأزين كبشي بهذا الخيط الأحمر وأمشط شعره وألبسه لباسا جديدا
- (وسام غاضبا ومقاطعا) أصمت أيها الأبله، هل يرتدي الكبش ملابسا؟
- (حسني معارضا) سألبسه ما أراه صالحا نكاية بك، أنا حر
- (عدنان ساخرا) إبدأ بالحفاظات أخي، ولا تنس أن تزين له وتعطره قبل أن نبحث له عن خطيبة في الحي....
وواصلوا الحديث وقلبي يدمي ويبكي دما من ناحية ويضحك لبراءة تفكيرهم وسذاجتهم من ناحية ثانية، فتحركت والقرع يزداد قوة وتواترا، فتحت الباب وأخرجت رأسي وأدرته يمنية ويسرة فلم أجد أحدا غير كبش كبير الحجم مقيدا بشريط كبير في قفل باب المنزل....
تبسمت ،ثم قهقهت عاليا وناديت الجميع وأنا أحمد الله وأشكره باستمرار، فقد تحول الحزن فرحا وحلم أبنائي واقعا ملموسا، وتغير الوضع وازدادت حيرتي وقلقي، إذ إني لا أملك ثمن الجزار الذي سيقوم بنحر هذا الكبش وأنا لا أتقن ذلك، وكذلك مصاريفه ولوازمه....
وبينما أنا كذلك وأبنائي يمرحون ويلعبون مع كبشهم، فإذا بالباب يطرق من جديد لأجد كبشا آخر مهدا من مجهول زاد غبطة في أنفس صغاري وحيرتي وقلقي مثل زوجتي....
وبقينا كذلك إلى الغد إلى أن قدمت منى مجددا وأعطت زوجتي خلسة مبلغا ماليا لتغطية لوازم العيد ومصاريفه بعد أن أنكرت علمها بقصة الكبشين - وقد تبين فيما بعد أنها أعلمت زوجها بما سمعت فأسرع باقتناء كبش في الحال، قبل أن يتكفل الجيران بالاشتراك في شراء كبش آخر للصغار ما إن علموا بوضعيتي وانقلاب حالي من وضع إلى وضع -.