الشراع والرمح المسحوق
قصة قصيرة
تداخلت الرؤى في عينيه.. وامتدت نظرته السرمدية إلى أعماق المحيط من نفسه. يا له من عالم ذلك الذي تعيش فيه ، صور غريبة متناقضة يعاينها بشكل يومي وصور أخرى متناقضة يراها تروح وتجيء أمامه زاهية منتصبة.. متحدية كل قوانين المنطق ومدلولاته... لا منطق ولا واقع صحيح في هذا العالم.
أيكون من المعقول والمنطقي أن يبقى هكذا يحيا على حافة الحياة وسراب الأمل يحيط به في أثناء سيره في صحراء الفاقة؟ أيكون المنطق موجودا والمعقول قائما وصورة مشوهة لأيامه تتربع قائمة أمام ناظريه لا يزحزحها أي مبدأ في العالم؟ إن المبادئ لا تطعم خبزا هذه الأيام..
وأحس بيد تلمس كتفه برفق ، وصوت يتسلل إلى أذنيه عبر نداءات الخيال.
_هيه.. يا أستاذ.. دعنا ننهي هذه الأوراق.
ونظر إلى محدثه متسائلا.
_أية أوراق تلك التي تطلب مني إنهاءها يا أخي؟!...
_تلك التي تقبع بين يديك منذ أكثر من نصف ساعة على الأقل.
ونظر إلى يديه، فوجد مجموعة من الأوراق تنتظر سفرا جديدا... وانتبه إلى نفسه كانت أحلامه قد وجدت لها طريقا إلى الخروج مرة أخرى، إنها تقهره هذه الأيام...
لم يعد يستطيع أن يخضعها إلى إرادته ، ها هي إرادته تخونه مرة أخرى ... انتبه إلى نفسك يا أستاذ ولا تكن ضعيف الإرادة ولتبق خيالاتك مخزونة إلى مكان آخر تكون فيه معزولا عن الآخرين ثم بعد ذلك أطلق أعنتها كما تشاء.. وتمالك نفسك من جديد بعد خطاب وعظي قدمه لنفسه مؤنبا إياها . وتدارك الموقف بسرعة فأمسك بقلمه ليوقع الأوراق الراكدة أمامه ، ولكنه قبل أن يضع توقيعه استوقفه خاطر سريع.. هل هذه الأوراق كاملة أم لا زالت تنقصها بعض الإجراءات ؟ فهي ستخرج من عنده إلى الصندوق مباشرة.
_هذه الأوراق غير كاملة يا..
وتوقف عن متابعة الحديث ، فقد شعر بيد الرجل تمتد إلى جيبه مقبوضة سريعة وتخرج منها بيضاء ممدودة، ونظر إلى الرجل فألفاه يرسم ابتسامة واثقة بأن أوراقه قد أتمت مشوارها وخشي أن يكون الرجل قد أخطأ في الفهم. ولم يسمع قوله جيدا.
_لم تكتمل أوراقك بعد يا سيدي ، ويجب أن تتمها حتى...
ومرة أخرى تبسم الرجل ونظر إلى المعطف المعلق والذي شهد معركة الهجوم الصاعقة التي حدثت قبل قليل..
وامتدت يد محمد إلى جيب معطفه بسرعة فاصطدمت أصابعه بجسم غريب لم يكن يسكن المعطف من قبل ، وعندها فطن إلى هدف الرجل ، فأخرج الورقة النقدية من جيبه وسوط من الغضب يلسع نفسه فيلهب شعوره وأحاسيسه ، وكور القطعة النقدية في وجه الرجل ثم ارتفع صوته مغضبا...
_ما هكذا قصدت يا أفندي.
فارتبك الرجل وحاول أن يغطي الموقف من جديد ، فأخرج قطعة نقدية أخرى ودفعها إليه يحسب أن ما دفعه كان قليلا وتابع حديثه مقاطعا محمدا
_يا سيدي هذا فنجان قهوة .. ونحن أخوة.
وكان رد محمد قاسيا هذه المرة.
_أخوة؟!.. وكيف ذلك وأنت تقدم لي هذه النقود .. إنها عملية بيع وشراء ... أنت تشتري ضميري .. تشتري وجداني...
_يا أخي ما قصدت ذلك.. لا تفهمني خطأ..
_وبعد .. أيكون فهمي لك خطأ وأنت تمارس الخطأ؟.. أحسبني موظفا معدوم الضمير؟.. إذا كنتم تملكون بعض المال أيتيح لكم هذا إهانة الآخرين؟!.. لن اترك الأمر يمر هكذا .. وانطلق بسرعة إلى الداخل وشق طريقه عبر ممرات الدائرة التي يعمل بها والغضب يشعل قدميه فيزيد تسارعهما.. وطرق الباب بشيء من الشدة، فجاءه الرد من الداخل.
_ادخل..
ودخل محمد ونفسه الثائرة تسبقه.. و انتظر أن يأذن له المدير بالحديث ، ولكنه وجد المدير غارقا إلى أذنيه في الحديث مع مجموعة من الرجال لم يشاهدهم من قبل.. فانتظر فترة ريثما ينتهي الحديث الدائر بينهم.. وهدأت نفسه قليلا، وعادت أفكاره من جديد تراجع ما حدث .. لماذا يغضب كل هذا الغضب؟!..أهي المرة الأولى التي تمارس فيها عملية الرشوة؟!.. ألم يسمع بما يدور من حوله ؟.. ألا يشاهد الآخرين وكيف تجري عمليات الصرف خارج الأماكن المعهودة وكأنما أصبح لكل موظف بنك خاص يحمله رجل من هؤلاء الرجال الذين يحاولون أن يمرروا من خلالهم كل المخالفات التي تتيح لهم ربحا وفيرا ولا يكون للموظفين المساكين سوى المسؤولية وخيانة الضمير، ولقمة ذليلة صغيرة ولا يكاد يقيم بها أوده.. ألا يشاهد كل ذلك؟!.. صحيح أنه لم ينفذ حتى الآن أية عملية من عمليات الرشوة تلك.. ولكنها تجري تحت سمعه وبصره..
وانتفض جسده بشدة وهو يفكر هذا التفكير .. أين مبادئه وأفكاره الثورية التي تهدف إلى زرع العقيدة الصحيحة والأفكار الجيدة في نفوس أبناء المجتمع .. أيبيع كل ذلك ببضعة دراهم سيفقدها بعد قليل؟!..لا.. لا .. لن يفعل ولو كلفه ذلك عمره..
_ماذا تريد يا محمد؟
قال له ذلك المدير وهو ينظر إليه متسائلا
عادت نفس محمد تشتعل غضبا لدى سماع صوت مديره، وامتدت يده بالأوراق النقدية التي وضعها الرجل في جيبه ويده وقال بعنق
_انظر يا سيدي
_ما هذا .. نقود ولماذا تريني إياها؟
_هذا ثمن يدفع لي كي أخون ضميري ووجداني وواجبي تجاه عملي وأمتي..
_ماذا؟!.. كيف ذلك؟
_لقد دفع هذه النقود إلى رجل يريد أن أنهي له أوراقا لم تكتمل بعد وتحتاج إلى إجراءات طويلة.
_وأين هو هذا الرجل.. أحضره بسرعة.. بسرعة..
خرج محمد من عند رئيسه وقد عاودت نفسه الطمأنينة ، فقد أخبر رئيسه بما حدث وكان تجاوب مديره معه كما توقع.. لا زالت الدنيا بخير .. ولا زال هناك أناس صالحون لا يهمهم إلا صالح العمل والواجب الوطني.
لم يجد الرجل في مكانه عندما عاد إلى غرفته .ز ولكنه لم يستغرب الأمر، فقد كان يتوقع ذلك، فكيف لرجل يمد يد الرشوة إليه ويشعر أنه سيحاسب على ذلك أن يبقى بعد ذلك. وانفرجت أساريره عندما وصل إلى هذه النتيجة.
_يا أستاذ محمد المدير يطلبك..
_يطلبني؟!. و لماذا؟!..
_لا أعلم .. كل ما قاله لي أرسل لي محمد وبسرعة..
وفكر مليا .. لماذا يطلبه المدير في هذه الساعة المبكرة من النهار ,ولم يمض على قدومه إلى العمل سوى ساعة واحدة، ترى ماذا يريد مني؟!
وطرق الباب طرقا خفيفا فسمع من الداخل صوتا غاضبا يصيح عاليا ادخل.. فارتجفت يده وهو يفتح الباب ويهم بالدخول .
_ما هذا يا أستاذ ..أتريد أن تخدعني.. أتريد أن تلعب علي؟!..
وفوج~ بهذه الكلمات السريعة الغاضبة تنهمر عليه قبل أن تحتل قدماه أرض الغرفة، فارتبك وتلفت حوله في اضطراب .. من ..؟!.. ماذا يرى؟ إنه الرجل الذي دفع له النقود بالأمس .. هو نفسه الذي كان ينبغي أن يشتري ضمير.. ماذا يفعل هنا؟!.. واشتد مرجل الغضب في نفسه من جديد، وانتفخت أوداجه مجددا.. ونسي الكلمات القاسية التي صبها مديره في أذنيه ، والتفت إلى مديره وهو يشير إلى الرجل بيده وصاح بصوت مرتفع
_هذا هو يا سيدي الرجل الذي...
_أعلم .. أعلم ذلك هذا هو الرجل الذي أخذت منه النقود وأجبرته على السكوت ثم أردت أن تسبق الأحداث بعد أن شعرت أنك ستنال جزاءك.
_ماذا؟!..
_نعم أردت أن تمثل علي ذلك أمس ولكني استطعت كشفك اليوم .. ألا تعلم من هو .. إنه صديقي
_صديقك ؟!..
_نعم صديقي.. ستحاسب على ذلك يا أستاذ.. حسابك حسابا عسيرا.
_؟!....
وامتدت به قدماه خارج الغرفة تجر معها جثة مخذولة وأفكارا سريعة تلاحق رأسه ما هذا؟!.. ما الذي يحصل هنا؟.. كيف ييتم ذلك؟.. أتنقلب الموازين فجأة ويصبح الظالم مظلوما ؟.. أتغيرت مفاهيم العالم ويصبح الراشي بطلا؟.. ولكن الذي أستغرب له أكثر من غيره هو أنه كيف يكون هذا الرجل صديقا للمدير ؟!.. لا أصدق ذلك .. فلو كان صديقه حقا لما احتاج إلى أحد منا ولكانت أوراقه تأخذ طريقها بشكل مستقيم تحت إشراف المدير نفسه.. ولكان صاحبنا اتجه من فوره إلى صديقه المدير ووفر على نفسه مؤونة التحدث إلي ودفع ما دفعه.. ثم .. واضطربت الكلمات في داخله .. ولم يجد ما يتحدث به، فكل ما يشاهده يعكس الصورة في داخله ، حتى المبادئ والأفكار والقيم والمثل العليا .. كل هذه المقولات أصبحت شيئا تافها في نظره .. لا زالت شريعة الغاب تحكم نفوس هذه المجموعة من أصحاب السلطان.. إنه ليعجب كثيرا كيف انقلبت الموازين في حكايته هذه.. ومما أشعل الدهشة و العجب في نفسه أكثر حكاية الصداقة التي خرج بها مديره المحترم.
_يا سيدي لم نعد في ذلك العصر الذي يمكن لكم أن تكذبوا فيه وأن نصدق أمثال هذه الكذبة.. ولكن لم يكذب. أظن أن هذه الصداقة قد وجدت فعلا.. ولكنها حديثة أظن أنها بدأت منذ ساعات قلائل.
واستقر به المقام على كرسيه الذي ناء بالعمل الثقيل المنهك.. لقد أنهكته الصورة المهزوزة في العالم المائل أمامه. أنهكته التشويشات التي يقوم بها نماذج قبيحة من الرجال فيخلقون عالما جديدا ممزوجا بقذارات جديدة.
_أستاذ محمد.. أستاذ محمد.
_نعم .. من؟..
_أنا مدحت .. ما بك؟..
ورفع محمد رأسه متثاقلا وهو ينظر إلى الزاوية الأخرى من المكتب.. فقد كان زميله مدحت يشغل الركن الآخر من الغرفة.. ووجده ينظر إليه متسائلا يرسم الإشفاق والحب على شفتيه إنه إنسان بكل ما تحمل هذه الكلمة من معنى.. ولقد كان يعرف فيه هذا الجانب الإنساني منذ زمن بعيد. ولكن هدوءه الغريب وانطواءه غير المألوف هما اللذان يبعدانه عن ذهنه بل إنه في كثير من الأحيان يكاد ينسى أن هناك احدا يسكن معه هذه الغرفة. ود لو يعرف السبب الذي يجعل مدحت منطويا على نفسه هكذا.. ولكن أنى له ذلك وهو يعلم أن زميله لا يدع مجالا لأحد حتى في الاقتراب منه أحيانا.. ثم إنه هو نفسه مشغول عنه بل وحتى عن نفسه..
وارتدت نفسه إليه مجددا.. وسخر من نفسه ، هذه الأفكار التي انساقت إليه أهذا أوانها؟!..
ألا يجد من الأحداث ما يشغله حتى ينفلت فكره إلى أمور جانبية كهذه؟..
وأجاب زميله بنوع من الرفق.
_لا شيء يا مدحت.. كل ما في الأمر صداع تملك رأسي.
_أأعطيك حبة(أسبيرين)؟
_شكرا.. بعد قليل سيزول من نفسه.. واستدرك فأنا لم أعود نفسي على الدواء.
وتابع مدحت سؤاله
_ماذا يريد منك المدير وأردف.. مبكرا؟
_لا شيء؟.. قالها بسرعة .. ثم تابع ساخرا .. كان يريد شكري على الجهود التي أبذلها في سبيل المصلحة العامة.
وضحك مدحت ضحكة ذكية..
_غير معقول!!.. كان من الممكن ان ينتظر حتى الظهر مثلا..
_لا وجدها صباحية أفضل.. يريد ان يستبشر بي وأضاف ضاحكا.. فوجهي صبوح كما تعلم... وضحكا معا...
_أستاذ محمد..
_ نعم ماذا تريد ؟..
وتناول الكتاب بدهشة وتساؤل.
_ممن الكتاب؟..
_من المدير.
_!..
وارتجفت يده عندما سمع كلمة المدير. ففتح المظروف بسرعة مضطربة . وأخرج ورقة صغيرة موقعة بتوقيع المدير.
وتاهت الحرف أمام عينيه.. وتراقص الضوء ضمن نوافذ بصره.. وسقطت الورقة المطبوعة من يده فأسرع مدحت لتناولها وهو يسأل.
_ماذا.. ماذا هناك؟!..
أجاب وهو ينظر إلى البعيد البعيد .. وشعاع حاد كم السخرية يطوف فوق شفتيه.
_ لا شيء.. إنها المكافأة المنتظرة.. انطلقت الأفكار الثائرة العنيفة من رأسه وهو يتابع سيره البطيء المتثاقل باتجاه غرفة المدير .. مطلوب للتحقيق؟.. لماذا؟.. ألأنه وقف الموقف الصريح والصحيح تجاه الغش والرشوة ألأنه حارب صورة من صور التخاذل الاجتماعي؟! .. و.. يا رب أيصل الظلم إلى هذا الحد ؟!..
أيصل الخداع والغش والدسيسة على الشرفاء امثاله إلى هذا الحد بجعلهم قيد التحقيق؟!.. وبماذا؟!.. بتهمة الرشوة؟!..التهمة التي حاول أصلا قتلها من نفوس الناس إذا بها تلحقه .. ماذا أفعل؟!.. ماذا أفعل؟!..
ولم يحتج هذه المرة إلى طرق الباب .. فقد كان مفتوحا.
وقف امام مديره والاضطراب يلف كيانه إلا أن نظراته لم تخل من الثقة التي يشعر بها أمام نفسه ... كان يثق بأن الحق في جانبه.
_وبعد ماذا تقول فيما وجه إليك يا محمد أفندي؟
_أقول.. إنه غير صحيح ولو كان كذلك لما سارعت إليكم لأخبركم فورا.. يا سيدي..
_هذا يكفي.. فالمجرم يغطي جريمته بأمثال هذه الأساليب.
_لا أسمح لك يا سيدي بتوجيه مثل هذه التهمة .. فأنا لست مجرما
_سنرى ذلك.
وعاد إلى غرفته ينتظر نتيجة التحقيق .. لم يعد يهتم بشيء... هذ الظلم لن يستمر .. سيكافح.. سيقاتل.. في سبيل إثبات حقه.. لن يرضى بالتسليم مطلقا.
_أستاذ محمد.. قالها المستخدم وهو يعطيه ورقة مطبوعة.
_ماذا .. ماذا فيها؟!.
_إنه أمر .. بالنقل.
وانهار محمد على كرسيه وغاصت عيناه بدموع الغيظ وانفلتت من إصبعيه السيجارة الرابضة بينهما محطمة مسحوقة.
د عبد الحميد ديوان