العباس بن الأحنف وفَوْز - شاعر العفّة الكتوم
ينتقل بنا صاحب هذه القصة من عصر إلى عصر آخر. فمعظم شعراء الحب العذري الذين عرفناهم عاشوا في عصر صدر الإسلام والعصر الأموي.
وقد كان عصر بني أمية يتميز عن بقية العصور الإسلامية بالصدق في وحدانية الحب لأنه العصر الذي ترتبط فيه دعائم الحضارة الإسلامية بالإسلام تماماً، فقد كان أقوى العصور العربية بعد عصر النبوة والراشدين. وفيه أرسيت دعائم الحضارة الإسلامية، وفي هذا العصر أيضاً وجدنا البداية الحقيقية لتأثر العرب بالإسلام، وتجلى ذلك بظهور هذا النوع من الحب الذي يسمو بالنفس الإنسانية إلى عالم الروح والتصوف والاتحاد بذات الحبيبة، وهذه الصورة تشبه حالة الصوفي المتحد بالذات الإلهية.
أما العصر الذي عاش فيه شاعرنا العباس بن الأحنف فقد كان عصر امتزاج الحضارات الفارسية والرومية واليونانية وغيرها، ولذلك شاع فيه الترف وكثرت الملذات والمباهج. فهو عصر كما أطلق عليه المؤرخون عصر (ألف ليلة وليلة). ومع ذلك فقد وجد فيه هذا النوع من الحب الذي نبحث عنه في ذلك الخضم المتلاطم. ووجد فيه شاعر يمتلك العفة والكتمان في عصر انعدمت فيه أو كادت تلك العواطف النبيلة.
كان العباس شاعراً بغدادياً غزلاً حلو الحديث غزير الفكر محبوباً من هارون الرشيد الخليفة العباسي ووزرائه وقواده، وكان محمد بن المنصور بن زياد الملقب بفتى المعسكر يألف ويعجب به، فكان يدعوه إلى منزله، وكان جواداً يختلف إلى مجلسه الأدباء والشعراء، وكان له جوارٍ كثيرات وكانت من بينهن جارية جميلة ظريفة تسمى فوزاً تروي الشعر وأخبار العرب، فكان محمد يُحضرها مجالسه، فوقعت في قلب العباس بن الأحنف، واستحكم حبها في نفسه وعلمت هي أنه احتلت مكاناً مرموقاً في قلبه، فقد كان يطيل النظر إليها، وكان إذا سأله محمد بن المنصور عما أحدث من الغزل ينشد أشعاره وهو ناظر إليها، وكان يكنّيها باسم ظلوم، لما كانت تصد عنه وتنفر منه.
وسأله يوماً محمد ماذا أحدثت؟ فقال:
قالتْ ظلوم سميّة الظلم
مالي رأيتك ناحل الجسمِ
يا من رمى قلبي فأقصده
أنت العليم بموضع السهم
فمدحه محمد وأظهر إعجابه واستحسانه لما قال، وقال له: زدنا يا عباس من غزلك الرقيق، ونظر إلى فوز فرآها تتكلف الإعراض والازورار عنه فأنشد:
ألا تعجبون كما أعجب
حبيب يسيء ولا أعتب
وأبغي رضاه على سخطه
فيأبى عليَّ ويستصعبُ
فيا ليت حظي إذا ما أسأ
تَ أنك ترضى ولا تغضب
فقال محمد بن المنصور: والله إن معشوقتك لمقصِّرة، ولو كنت في موضعك لقابلت إعراضها بإعراض، فقال على البديهة:
تحمَّل عظيم الذنب ممن تحبُّهُ
وإن كنتَ مظلموماً فقل أنا ظالمُ
فإنّك إلاّ تغفر الذنبَ في الهوى
يفارقْكَ من تهوى وأنفكَ راغمُ
فطرب محمد لقول العباس وقال له: صدقت. وانتهى المجلس فقام وانصرف.
وفي مجلس آخر لمحمد بن المنصور أقبل العباس فسلَّم وجلس، وبعد قليل ظهرت فوز في المجلس فخفق قلبه، وجلست دون أن تحييه، وأخذ العبّاس في الحديث، فسأله محمد بن المنصور ما شأن صاحبتك وهل وصلتك؟ فأجاب:
والله لو أن القلوب كقلبها
ما رقَّ للولدِ الضعيفِ الوالدُ
وقال محمد: ترى من هي التي فتنتك وما مقدار حسنها؟ صفها لنا وأوجز فقال على الفور:
لقد مُلئتْ ماء الشباب كأنها
قضيب من الريحان ريّان أخضرُ
فخجلتْ فوز ولم ينتبه محمد بن المنصور ولم يفطن إليها، وقال: مسكين أنت يا عباس، ولو عرفتها لكلمتها في أمرك، ومن يعرف ربما كانت تصد عنك عتاباً لا مللاً ولا كرهاً، فأنشد:
لو كنتِ عاتبةً لسكَّن روعتي
أملي رضاكِ وزرتُ غيرَ مراقبِ
لكن مللتِ فلم تكن لي حيلةً
صدُّ الملول خلاف صدِّ العاتبِ
فقالت فوز: يا عبّاس ظنَّ خيراً فربما كانت لا تستطيع لقاءك ولا أن تبادلك حباً بحب، فقال على الفور:
تمنى رجال ما أحبّوا وإنما
تمنّيت أن أشكو إليها وتسمعا
أرى كلَّ معشوقين غيري وغيرها
قد استعذبا طول الهوى وتمتّعا
فقالت فوز ملمِّحةً: أبلغك اللهُ أمنيتَك يا عبّاس. وكانت بعد ذلك تكاتبه وتراسله.
وأصبح العباس بعد ذلك كلفاً بفوز لا يفارق مجلسَها ومجلس سيدها، واشتد به وجدُه فكان يبيت الليل مسهداً لا يغمض له جفن، وطال عليه ذلك فأنشد:
قفا خبّراني أيها الرجلانِ
عن النومَ إن الهجرَ عنه نهاني
وكيف يكون النوم أو كيف طعمُه
صفا النومَ لي إن كنتما تصفانِ
وشكا إلى بعض أصحابه أنه لا ينام، فتغامزوا عليه، وقالوا: محب هائم، دعِ الحب يأتك النوم، وأمسى لا يلمّ به النعاس، فأنشد:
لما رأيتُ الليلَ سدَّ طريقَه
عني وعذبني الظلام الراكدُ
والنجمَ في كبد السماء كأنه
أعمى تحيّر ما لديه قائدُ
ناديتَ من طرد الرقاد بصده
عما أعالج وهو خِلْوٌ هاجدُ
يا ذا الذي صدعَ الفؤادَ بهجره
أنت البلاءُ طريفُه والتالدُ
ألقيت بين جفون عيني حرقةً
فإلى متى أنا ساهرٌ يا راقدُ
وأرسل إليها هذه الأبيات في رقعة وذيّلها بقوله:
وسعى بها ناسٌ فقالوا إنها
لهي التي تشقى بها وتكابدُ
فجحدتهم ليكون غيرك ظنّهم
إني ليعجبني المحبُّ الجاحدُ
ولما وقفت على الرقعة قالت للرسول: لقد بلغني عنه أشعاراً يتغزل فيها باسمي كأنه يريد أن يفضحني عند سيدي. وإنني لا أستطيع أن ألقاه بعد تشهيره بي، فلما عرف جوابها أنشد:
لعمرك ما يستريح المحـ
ـبُّ حتى يبوحَ بأسرارِه
وقد يكتمُ المرءُ أسرارَه
فتظهر في بعض أشعارِه
وفي يوم آخر دخل العبّاس على مجلس محمد بن المنصور وفوز جالسة بين يديه ومعه حضور كُثُر. فقال له محمد: أنشد بعضَ ما قلت من غزلك يا عبّاس فإن غزلك رقيق يأخذ بمجامع القلوب، فأنشد:
أتأذنون لصبٍ في زيارتكم
فعندكم شهوات السمع والبصرِ
لا يضمر السوء إن طال الجلوس به
عفَّ الضمير ولكن فاسقَ النظرِ
فلم يبق أحد في المجلس إلا طرب وتعجب من حسن المعاني التي يأتي بها في شعره، وقال له محمد: زدنا يا عباس مما قلت حياك الله فأنشد:
راجع أحبّتك الذين هجرتهم
إن المتيَّم قلّما يتجنّب
إن التجنّب إن تطاول منكما
دبّ السلوُّ له فعزَّ المطلب
فتبسمت له فوزُ وقال السامعون: أحسنت والله ولله درك، وماذا بعد؟ فأنشد:
الحب أول ما يكون بحاجة
تأتي به وتسوقه الأقدار
حتى إذا سلك الفتى لجج الهوى
جاءت أمور لا تطاق كبار
نزف البكاء دموع عينك فاستعر
عيناً لغيركَ دمعها مدرارُ
من ذا يعيرُك عينَه تبكي بها
أرأيتَ عيناً للبكاء تُعارُ
فلم يبق أحد من الحاضرين إلا قال له: أنا أعيرك عيني، حاطك الله وحفظك والتفت إلى فوز فغضت طرفها عنه خجلةً فأنشد:
قلبي إلى ما ضرّني داعي
يكثر أسقامي وأوجاعي
كيف احتراسي من عدوّي إذا
كان عدوّي بين أضلاعي
أسلمني للحبِّ أشياعي
لما سعى بي عندها الساعي
إن دام لي هجرك يا مالكي
أوشك أن ينعاني الناعي
ولما رأت فوز ما حل بالعباس من وجد وسهد وضنى رقّتْ له فواعدته في ليلة كان سيدها غائباً عن الحي، ولم يكدْ يصدّقْ عينيه حين رآها فوثب إليها وسلم عليها، وجلست فقالت له:
لا بدّ للعاشق من وقفةٍ
تكون بين الوصل والصّرمِ
يعتب أحياناً وفي عتبه
إظهار ما يخفى من السُّقْمِ
إشفاقه داعٍ إلى ظنّه
وظنُّه داعٍ إلى الظلمِ
حتى إذا ما مضَّهُ هجره
راجعَ من يهوى على رغمِ
ثم أردفت: إني إنما صددت عنك لما كنت أرى من عبرات تترقرق في عينيك وأخشى أن يعرف أمرك محمد بن المنصور، فيمنعك من لقائي. فأنشد قائلاً:
لا جزى الله دمع عيني خيراً
وجزى الله كلَّ خيرٍ لساني
نمَّ دمعي فليس يكتم شيئاً
ورأيت اللسانَ ذا كتمانِ
كنتُ مثل الكتاب أخفاه طيٌّ
فاستدلّوا عليه بالعنوانِ
ومكثت قليلاً، ثم استأذنت في الانصراف فأذن لها والألم يمزق قلبه وأنشد:
وإني ليرضيني قليل نوالكم
وإن كنت لا أرضى لكم بقليل
بحرمة ما قد كان بيني وبينكم
من الوصل إلا عدتمُ بجميلِ
ثم غابت عنه مدة طويلة لم يرها فيها فاشتد شوقه وهاجت أشجانه هواجسه، فكتب إليها رقعة يقول فيها:
نامَ منْ أهدى ليَ الأرَقا
مستريحاً زادني قلقا
لو يبيت الناس كلهمُ
بسهادي بيَّضَ الحدقا
كان لي قلبٌ أعيش به
فاصطلى بالحب فاحترقا
أنا لم أرزق مودتكم
إنما للعبد ما رُزقا
فلما قرأت الرسالة قالت للرسول: لقد ظلمنا العباس، وإني لزائرته وضربت له موعداً للقائه.
وظل العبّاس ينتظر فوزاً ولكنها تأخرت عن موعدها قليلاً، فداخلته الوساوس وهجمت عليه الهواجس وظن أنها لن توافيه، فبكى وأنشد:
أُحرَمُ منكم بما أقول وقد
نال به العاشقون من عشقوا
صرتُ كأني ذبالةٌ نُصبتْ
تضيُ للناس وهي تحترقُ
ولم تمض إلا مدة يسيرة حتى أقبلت. فقالت له معتذرة: قد تأخرت عنك لشغل عرض لي ولم يكن لي طاقة بتأخيره، ثم أقبلت عليه وقالت له أنشدني بربك آخر ما نظمتَ فيَّ فأنشدها:
إن قال لم يفعل وإن سيلَ لم
يبذلْ وإن عوتب لم يُعتَبِ
صبٌّ بعصياني ولو قال لي
لا تشربِ الباردَ لم أشربِ
إليكَ أشكو ربِّ ما حلّ بي
من صدِّ هذا المذنب المُغْضَبِ
فقالت: لا عليك، والله ما أتأخر عنك من صدٍّ ولا هجر إنما هو الشغل يحول بيني وبين لقائك وكلامك الحبيب إلى نفسي فقال:
تعتلُّ بالشغل عنّا ما تكلّمنا
الشغلُ للقلبِ ليس الشغلُ للبدنِ
فقالت: أتظنني أملك أمري، إذن ما فارقتك ولا وجدت في نفسي هذا النقص لعدم لقياك، وتشاكيا الهوى ثم قامت، فمضت..
وبعد مدة حرك الشوق العبّاس إلى فوز فأرسل لها رسولاً لكي يلقاها فعاد الرسول إليه يخبره أنها تجد صداعاً وأنه رآها معصوبة الرأس فأخذه الوجد بها، وتمنى لو نقل الداء إلى رأسه فداءً لها وأنشد:
عصبت رأسها فليت صداعاً
قد شكته إليَّ كان براسي
ثم لا تشتكي وكان لها الأجـ
ـر وكنتُ السقام عنها أقاسي
ذاك حتى يقول لي من رآني
هكذا يفعل المحبُّ المواسي
ولما بُرئت من مرضها فرح فرحاً شديداً وعزم على أن يلقاها ولكن خبراً سريعاً وصله بأنها نكست في مرضها مرة أخرى فاشتد به الحزن وقال:
إن التي هامت بها النفس
عاودها من عارضٍ نُكْسُ
كانت إذا ما جاءها المُبْتَلى
أبرأه من كفها اللمسُ
وا بأبي الوجه المليح الذي
قد عشقته الجنّ والإنسُ
إن تكنِ الحمّى أضرتْ به
فربّما تنكسفُ الشمسُ
وكان حب فوز في نفسه قد بلغ مبلغاً عظيماً وعشقها ملك عليه نفسه، حتى أنه في يوم عنَّفَ غلاماً قال له لخطأ أخطأه الغلام معه وحلف ليبيعنّه فأسرع الغلام إلى فوز فاستشفع بها إليه فكتبت إليه تستشفعه فيه فقال:
يا من أتانا بالشفاعات
من عند من فيه لجاجاتي
إن كنت مولاك فإن التي
قد شفعت فيك لمولاتي
إرسالها فيك إلينا لنا
كرامةٌ فوق الكراماتِ
وبدل أن يبيع الغلامَ أعطاه مالاً وأعتقه.
ومضت مدة طويلة من الزمن ابتعدت فيه فوز عن لقاء العباس فقلق وجزع وظن أنها قد هجرته فكتب إليها رسالة يقول فيها:
يا فوز يا منية عبّاسِ
واحربا من قلبكِ القاسي
أسأت أن أحسنتُ ظني بكم
والحزم سوء الظنِّ بالناسِ
يقلقني الشوق فآتيكمُ
والقلبُ مملوءٌ من الياسِ
فقالت للرسول: إن الفرصة لا تواتيني فعاد إليه وأخبره بما قالت فكتب رسالة أخرى يتفجّع فيها على وصلها فيقول:
سلبتني من السرور ثياباً
وكستني من الهموم ثيابا
كلما أغلقتْ من الوصل باباً
فتحت لي إلى المنيّة بابا
عذّبيني بكل شيء سوى الصدِّ
فما ذقت كالصدود عذابا
ولما قرأت الأبيات رقت له وقالت للرسول: إني زائرة له في يوم كذا..
وجاءت إليه في اليوم الموعود، فوثب إليها وجثا عند قدميها يشكو تباريح الهوى. فأمسكت برأسه ووضعت يدها على صدره وقالت: ليتني كنت لك، وبكت وبكى معها وأنشد:
ما أنسَ لا أنسَ يمناها معطِّفةً
على فؤادي ويسراها على راسي
وقولها: ليته ثوب على جسدي
أو ليتني كنت سربالاً لعبّاسِ
أو ليته كان لي خمراً وكنت له
من ماء مُزْنٍ فكنا الدهرَ في كاسِ
وأقبلت عليه، فقالت له إن سيدي قد عزم على الحج، وسيأخذني معه فأستودعك الله، وقامت فمضت لوجهها.
أخذ العباس يرقب خروج فوز لعله يراها وهي تحج إلى بيت الله الحرام ورأى راحلتها تعدو وهي خارجة إليها فبكى وأنشد:
يا ربِّ رد علينا
من لا نُسرُّ بعيشٍ
من كان أنساً وزينا
حتى يكون لدينا
وغابت فوز عن عينيه، فجزع جزعاً شديداً ومضى يسأل عن حجاج آخرين يحمّلهم إليها رسالة ووجد بعض من يعرفه معتزماً على أداء الفريضة فكتب إليها:
أزينَ نساءِ العالمين أجيبي
دعاء مَشوقٍ بالعراقِ غريبِ
كتبتُ كتابي ما أقيم حروفَه
لشدّة إعوالي وطولِ نحيبي
أخطُّ وأمحو ما أخطُّ بعبرةٍ
تسحُّ على القرطاس سحَّ ذنوبِ
أيا فوز لو أبصرتني ما عرفتني
لطول نحيبي بعدكم وشحوبي
وأنتِ من الدنيا نصيبي فإن أمتْ
فليتك من حورِ الجنان نصيبي
وإني لأستهدي الرياحَ سلامَكم
إذا أقبلت من نحوكم بهبوبِ
وأسألها حملَ السلام إليكمُ
فإن هي يوماً بلَّغتْ فأجيبي
أرى البينَ يشكوه المحبّون كلهم
فيا ربِّ قرِّبْ دارَ كلِّ حبيبِ
وقدمتْ فوزُ من الحج فعلم العبّاس بقدومها ففرح فرحاً شديداً وأخذ ينشد سروراً:
ألا قد قدمت فوزُ
لمنْ بشّرني البشرى
فقرّت عينُ عبّاسِ
على العينين والراس
وبقي العبّاس ينتظر من فوز بعد مجيئها من الحج موعداً تضربه له ولكنها كانت قد انصرفت عنه إلى بعض شباب الجند فكتب إليها:
أبكي الذين أذاقوني مودتهم
حتى إذا أيقظوني للهوى رقدوا
فلم تردّ عليه ولا ضربت له موعداً وطال جفاؤها له، فسأل عنها بعض معارفها فأخبروه أنها أحبت سواه. فعزم على تركها وغضب غضباً شديداً ولكنه لم يستطع أن ينفّذ ما عزم عليه من تركها فكتب إليها متوسلاً يقول:
الإدلال يدعو إلى الإملال، وربّ حبٍّ انقلبَ إلى كره وهجر، ثم قال شعراً:
ما أراني إلا سأهجر من ليس
يراني أقوى على الهجرانِ
قد حدا بي إلى الجفاء وفائي
ما أضرَّ الوفاءَ بالإنسانِ
فقالت للرسول: إنه تغير لما يسمع من قول الوشاة وأنه يذكرني بالسوء وأني أحببت فتىً من فتيان الجند وهذا شأني وحدي، فإن أحب أن يختلف إلى مجلس سيدي فليفعل، فلما سمع ذلك بكى وكتب إليها:
كتبتْ تلوم وتسترد مودتي
وتقول لستَ لنا كعهد العاهدِ
فأجبتها ودموع عيني جمةٌ
تجري على الخدين غير جوامدِ
يا فوزُ لم أهجركمُ لملالةٍ
مني ولا لمقالِ واشٍ حاسدِ
لكنّني جرّبتكم فوجدتكم
لا تصبرون على طعامٍ واحدِ
وامتد بينهما الهجر واستطال فلم ينفع معه شيء.
وبقي العبّاس يندب حبه حتى أضناه الهجر فخرج مع غلام له إلى بعض الرياض فاستلقى تحت شجرة ورفع طرفه وهو متهالك ضعفاً، وأنشأ يقول:
يا سقيم الجسم من محنةٍ
مفرداً يبكي على شجنهْ
كلما جدّ البكاءُ به
دبّتِ الأسقامُ في بدنِهْ
ثم أغمي عليه، فأقبل طائر فوقع على شجرةٍ وجعل يغرّد ففتح عينيه ثم أنشأ يقول:
ولقد زاد الفتى شجناً
طائرٌ يبكي على فننهْ
شفَّهُ ما شفّني فبكى
كلّنا يبكي على سكنِهْ
ثم تنفّس تنفساً طويلاً وأرسل نفْسَه ففاضت مع أنفاسِه روحُه، فحمله غلامه إلى منزله، وخرج الجواري يبكين عليه ويندبنه وبكاه أصدقاؤه بكاءً حاراً.
د عبد الحميد ديوان
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق