" كُلُّ ما تَبَقَّىٰ..."
مَظَلَّةٌ سَوداءُ تَحجِبُ أشعَّةَ شَمسٍ تَزحَفُ نَحوَ كَبدِ السَّماءِ. وَ هيَ ذاتُهَا، تَمنَعُ قَطراتِ المَطرِ وَ حبّاتِ البَرَدِ، تُؤنِسُ صاحِبَها صَيفَ شِتاءَ، في طَريقٍ تُرابيٍّ تُؤطِّرُهُ شُجَيراتٌ وَ حَشائِشٌ بَريَّةٌ تَشكُو الظَّمَأَ، تَبعَثُ رَوائِحًا وَ أَنينًا حِينَ تَهِبُّ رِيحُ السُّمُومِ، أَو رِيحُ كانون الباردَةِ.
المُعَلِّمُ الهَرِمُ -يَوميًّا- يَتأَبَطُ حَقيبَةً باليَةً، يَحِثُّ الخُطَىٰ، إلـىٰ مَدرَسَةٍ تَبعِدُ عَنْ مَنزلِهِ خَمسَةَ كيلومتراتٍ أو يَزيدُ، تُرافقُهُ- غالبًا- ضِحكاتُ التَّلاميذِ البَريئَةِ، وَ خُطواتِهِم الصَّغيرَةِ وَ هُم يَتحلَّقُونَ حَولَهُ، قَبلَ أنْ تَمتصَّهُم طُرقًا مَيسَمِيَّةً إلـىٰ أكواخٍ وَ بيُوتاتٍ مُتناثرَةٍ في عَرصاتٍ جَرداءَ، تَفُكُّ أقفالَ صَمتِها أصواتُ حَيواناتٍ عَجفاءَ تَرعَىٰ البَوارَ، أَو عَواءُ وَ نِباحُ كِلابٍ قَلَّما تَصطادُ فَريسةً أَو تَحظَىٰ بِغَنيمَةٍ فيها لَحمٌ، تُشبِعُ جَوعَها.
أكثرَ مِنْ مَرةٍ تُراودُهُ فِكرَةُ الإنتِقالِ إلـىٰ مَدرسَةٍ أَو مَدينَةٍ أُخرَىٰ، لٰكنَّ أَلفُ يَدٍ تَجرُّهُ مِنْ أَنفِهِ، مُرغِمَةً إيِّاهُ البَقاءَ..
وَ إلـىٰ الأبدِ!
ألفُ فِكرَةٍ تَدُورُ في رَأسِهِ:
" - لِمَ لا تَذُقْ، وَ لَو لِمَرَّةٍ وَاحدَةٍ.. طَعمَ التَكْنُولُوجيا؟
هَلْ تَعرفُ فَضائلَ الكَهربَةِ؟
أَم شَنَّفَتْ أسماعَكَ بالمُوسيقَىٰ؟
كَحَّلْتَ ناظرَيكَ بِصُوَرٍ مُتحرِّكَةٍ تُطليها ألوانٌ زاهيَةٌ؟
تُرَىٰ.. أَ رَأَيتَ أنوارًا صاخبَةً، مطاعِمَ، مَركباتٍ مارقَةٍ بِكُلِّ ثِقَةٍ، حَيَويَّةَ ( الأَوادِمِ ) وَ عنفُوانَ الشَّبابِ وَ زَهوَ الفَتَياتِ، منازلَ فارهَةً، أشجارًا، أورادًا، معارضَ الملابسِ، الكُتبَ..
آهٍ مِنَ الكُتُبِ!
لَقَدْ سَمَّمَتْ ذِهنَكَ وَ جلدَكَ الكُتُبُ،
وَ الصَّفراءُ تَحديدًا، جَعلَتْكَ جَمرَةً حَمراءَ تَلسَعُ مَنْ يَمسِكُ بها، وَ تَأكلُ نَفسَها إذا بَقيَتْ لِوحدِها!
أمَّا النِّساءُ.. فَإنَّكَ دَفَنْتَ الأُمَّ، وَ حَثَيتَ التَّرابَ عَلـىٰ الزَّوجَةِ الأُولـىٰ، وَ حَزنْتَ كَثيرًا عَلـىٰ جَنينِها، بَينَما الثَّانيَةُ.. هيَ القِّشَةُ الّتي قَصَمَتْ ظَهرَكَ، وَ أرعبَكَ مَلَكُ المَوتِ إذْ دَخلَ مَخدعَكَ عُنوَةً، لِيُشيِّعَ جَنازتَها أمامَكَ!
وَقتُها.. أضحَيْتَ الرَّجلَ المَشؤُومَ الأَوحدَ، تَخشاهُ النِّساءُ، تَأبَىٰ النَّظرَ إليهِ، بَلْ تَزدَريهُ بِكُلِّ صَلافةٍ وَ اَحتِقارٍ، وَ لا تَرغبُ فيكَ كَرجلٍ مِنَ الرِّجالِ! "
- ... (لٰكنْ.. وَ الحَقُّ يُقالُ، لا تَمرُّ مناسبَةُ أفراحٍ أو أتراحٍ إلَّا وَ لَكَ الباعُ الطُولَـىٰ، وَ الكَأسُ المُعلَّـىٰ، وَ الرَّأيُ السَّديدُ، لَيسَ لإنَّكَ الجَوادُ حِينَ يَشِحُّ المَرءُ عَلـىٰ نَفسِهِ، إنَّما اِجتَمعَتْ فيكَ المُرُوءَةُ وَ الإيثارُ وَ الرِّفعَةُ مَعَ الجَّمعِ الإنساني.
أصبحْتَ (دينمُو) القَريَةِ وَ القُرَىٰ المجاورَةِ، تَكدَّسَتْ عَلـىٰ عاتقِكَ مَهمَّةُ تَعليمِ الصِّغارِ، وَ إدارةِ شُؤونِ الكِبارِ...)
هٰكَذا تَكَلمَ مُديرُ المَدرسَةِ اليافعُ في أحدِ أيَّامِ الخَميس أمامَ التَّلاميذِ، مُخاطِبًا اِستاذَهُمُ الكَبيرِ، وَ بَينَ الفَينةِ وَ الأُخرَىٰ.. تَشتَعِلُ أَكفُّ الصِّغارِ، وَ تَقطعُ الخِطابَ، بِتَصفيقٍ حادٍّ، كُلَّما يَرِدُ ذِكْرَ اِسمِ مُعلِّمِهِم، في أَثناءِ الكَلامِ، دُونَ أنْ يَفقَهُوا أغلَبَ الكَلماتِ، مَعَ اِبتساماتٍ عَريضَةٍ تَملَأُ وُجوهَ الطُّفُولةِ، وَ نظراتِ فَخرٍ وَ إعجابٍ بِعَلَمِهِمِ الواقفِ شُمُوخًا وَ أَنَفَةً، حالِمًا بِنظراتِهِ، قَويٌّ بِشخصِهِ بَينَ الجَّميعِ.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق