السبت، 5 أكتوبر 2024

مَقَامَةُ بَيْعِ الكَلِمَة بِقَلَمِ فُؤَادٍ زَادِيكِي

مَقَامَةُ بَيْعِ الكَلِمَةِ

بِقَلَمِ فُؤَادٍ زَادِيكِي

فِي ذَاتِ يَوْمٍ وَ الشَّمْسُ لَاهِبَةْ، وَ مِنِّي النَّفْسُ رَاغِبَةْ، فِي سَرْدِ نَصٍّ فِيهِ نَبْضُ المَشَاعِرِ، وَ رَوْنَقُ الخَوَاطِرِ، فَكَانَ مَا كَانْ فِي ذَلِكَ الزَّمَانْ. إِذْ خَرَجْتُ أَسْعَى عَلَى وَجْهِى، أَبْحَثُ عَنِ الأَدَبِ فِي سُوقِ الكَلَامِ، وَ أَرْتَشِفُ مِنْ مَعِينِ الفَصَاحَةِ وَ البَلَاغَةِ مَا يَبْعَثُ عَلَى الوِئَامِ، وَ إِذَا بِشَيْخٍ وَقُورْ، جَالِسٍ عَلَى حَافَّةِ الطَّرِيقِ، جَلِيلِ الحُضُورْ. يَلُفُّ عِمَامَتَهُ، وَ يَنْظُرُ إِلَى الأُفُقِ البَعِيدْ، كَأَنَّهُ يَبْحَثُ عَنْ شَيْءٍ مَا يُرِيدْ.

فَدَنَوْتُ مِنْهُ وَ قُلْتُ: "يَا شَيْخُ، مَا خَطْبُكَ، وَ إِلَى أَيْنَ دَرْبُكَ وَ أَنْتَ هَا هُنَا؟" فَأَجَابَنِي: إِنَّنَا أَنْتَ وَ أَنَا. كَانَ يَزْفِرُ زَفْرَةَ العَارِفِينْ، بَاحِثًا عَنْ مَعِينْ "يَا فَتَى، إِنِّي لَأَبْحَثُ عَنْ حَرْفٍ ضَاعَ فِي بَحْرِ الكَلَامِ، وَ أَرْتَقِبُ مَنْ يُعِيدُ لِي شِعْرِي الَّذِي سَرَقَتْهُ رِيَاحُ الأَيَّامِ".

فَقُلْتُ لَهُ: "وَ كَيْفَ لِحَرْفٍ أَنْ يَضِيعْ، فَهَلْ مِنْ شَارٍ وَ مَبِيعْ؟ إِنَّ الشُّعَرَاءَ كَثُرْ، وَ لِلْخَطَّاطِينَ أَثَرْ" فَقَالَ مُبْتَسِمًا: "إِنَّهُ حَرْفُ المَعَانِي، كَثِيرُ المَغَانِي، لَا يُدْرِكُهُ إِلَّا مَنْ صَدَقَ وَ مِنْ قَلْبُهُ نَطَقَ، بِعُمْقٍ فِي فِكْرِهِ، وَ تَرَوٍّ فِي أَمْرِهِ، أَمَّا أُولَئِكَ، فَهُمْ صُنَّاعُ الأَلْفَاظِ دُونَ رُوحْ، وَ لِهَذَا تَرَى نَجْمَهُمْ يَرُوحْ".

فَمَا كَانَ مِنِّي إِلَّا أَنْ تَأَمَّلْتُ فِي مَا قَالْ، فَخَطَرَ عَلَى بَالِي سُؤَالْ، قُلْتُ: "يَا شَيْخُ، دُلَّنِي عَلَى السَّبِيلْ، لَأَجِدَ فِي ذَلِكَ أَيَّ دَلِيلْ فَلَدَيَّ الدَّافِعُ فِي مَعْرِفَةِ الحَرْفِ الضَّائِعِ، فَإِنِّي أَرْغَبُ فِي اقْتِفَاءِ أَثَرِهِ، وَ قَطْعِ خَبَرِهِ". فَقَالَ: "هُوَ فِي صُدُورِ الشُّعَرَاءِ، وَ فِي قُلُوبِ الحُكَمَاءِ، فَانْظُرْ فِي أَنْفُسِهِمْ تَجِدْ مُرَادَكَ، وَ تُوَفِّرْ جِهَادَكَ".

ثُمَّ قَامَ وَ انْصَرَفْ، وَهُوَ يَنْظُرُ إِلَى كُلِّ طَرَفْ، تَارِكًا إِيَّايَ فِي بَحْرِ التَّأَمُّلْ، دُونَ مُجَامَلَةٍ أَوْ تَجَمُّلْ، فَأَخَذْتُ أَسِيرُ فِي سُوقِ الأَدَبْ، وَكُلِّي بَوَاعِثُ طَرَبْ، أَسْتَمِعُ إِلَى مَا يَتَغَنَّى بِهِ الشُّعَرَاءُ، وَأَرَى مَا يَسْطُرُهُ الكُتَّابُ وَ العُلَمَاءُ. وَ فِي زَاوِيَةِ السُّوقْ، رَأَيْتُ رَجُلًا يَبِيعُ الكَلِمَاتِ، بِرِقَّةٍ وَ ذَوْقْ، كَمَا تُبَاعُ البِضَاعَةْ، فِي ظَرْفِ سَاعَةْ، دَنَوْتُ مِنْهُ وَ سَأَلْتُهُ: "بِكَمْ تَبِيعُ الكَلِمَةَ؟". فَأَجَابَنِي بِضَحْكَةٍ سَاخِرَةٍ: "الكَلِمَةُ بِلَا ثَمَنْ، وَ لَكِنَّ المَعْنَى هُوَ الَّذِي لَا يُسَاوِيهِ ثَمَنْ".

فَأَدْرَكْتُ حِينَئِذٍ أَنَّ الأَدَبَ لَيْسَ زُخْرُفًا نَشْتَرِيهِ، وَ لَا كِتَابًا نَبْتَغِيهِ، بَلْ نُورًا نَسْتَضِيءُ بِهِ، وَ نَحْنُ نَدْخُلُ فِي مِحْرَابِهِ.. وَ أَنَّ الحَرْفَ إِذَا فَارَقَهُ المَعْنَى، أَصْبَحَ لَعْنَةْ، وَ صَارَ كَالسَّرَابِ فِي قَلْبِ الكِتَابِ.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

مشاركة مميزة

‏بنك القلوب بقلم ليلا حيدر

‏بنك القلوب بقلمي ليلا حيدر  ‏رحت بنك القلوب اشتري قلب ‏بدل قلبي المصاب  ‏من الصدمات ولما وصلت على المستشفى  ‏رحت الاستعلامات ‏عطوني ورقة أم...