الأربعاء، 23 يوليو 2025

الثقافة و الحرب بقلم علوي القاضي

 الثقافة و الحرب 

وجهة نظر : د/ علوي القاضي

... الكتابة وأسلوب الكاتب ، لون من ألوان الثقافة ، وهي تحتاج دائما خلفية أدبية لغوية متمكنة ، ولا يتم ذلك إلا بالمتابعة والتحصيل والقراءة المستمرة للكاتب ، لذلك أقول لمن يحترف الكتابة ، وهو في معزلٍ عن مواردها ، وانقطاعٍ عن روافدها ، أنت كالمحبوس في مهمةٍ صمَّاء خرساء ، وأوشك قلمك على النفاد ، فلا مدد ولا مداد ، إلا ما أُشرب من هواه !

... إذا ما موارد الثقافة ؟! وما روافدها ؟!

... أقول لك أهم مواردها وروافدها ، مسامرة ينابيع الوداد ، ومطالعة أسفار الرشاد ، ومجالسة أرباب السداد ، والخلوة بالفقه ، وإطالة النظر في الملكوت ، والسير في أرض الله ، واستدامة الفكر ، والقراءة من حين لآخر في دواوين الفلسفة ، والتضلع من آي القرآن (قراءة ، وسماعاً وتدبرا) ، وانبساط الروح في فنون الأدب وروائع الفنون وأفانين الحضارة ، تلك هي موارد وروافد الثقافة ، لأن الروح من الكتابة (آمرة و ناهية) ، (ينبوع و مصبّ) ، (سماء و أرض) ، و (مبدأ و غاية) 

... وما (الموارد والروافد) للروح إلا (الماء والمدد) ، وما من روح روحاء من أرواح البرايا ، إنعزلت عن مواردها وانقطعت عن روافدها ، إلا ماتت موات الفضيلة في قوم سوء

... وكان للثقافة والتمكن من الأسلوب والمعاني واللغة دور لابأس به في الحروب 

... فقد أرسل القائد (سيف الدولة الحمداني أحد القادة المسلمين) ، جاسوسا ليتلصص على جيش الروم ليَطَّلع على مدى جاهزيته للحرب ، فبعث جاسوساً فصيحاً في اللغة العربية كي يتصنَّتَ عليهم خُلسَة لمعرفة ما خفي من تفاصيلهم

... خرج الجاسوس لتنفيذ ما كُلِّف به ، ولكنه سرعان ما وقع أسيرا في قبضتهم ، بعدما إنقضوا عليه ، وكشفوا سره وإلمامه بأدق المعلومات عنهم

... ولما علموا أنه جاسوس المسلمين أرادوا التنكيل به ، بَيدَ أن أحد قادتهم أثبطهم عن عزمهم ، وأوصاهم بأن يُرغموه على تحرير رقعة (رسالة) لقائده سيف الدولة ، يخبره فيها عن مدى وهن العدو ، ويغريه بالمضي في الغزو قُدُماً ، لتنطلي الحيلة على المسلمين ، ويسهل الإيقاع بهم

... وبالفعل قد ساندوا فكرته ، فأرغموا الجاسوس على تدوين الرقعة (الرسالة) ، فكتب إلى قائده ما يلي ، (أما بعد ، فقد أحطت علماً بالقوم ، وأصبحت مستريحاً من السعي في تَعرف أحوالهم ، وإني قد استَضعفتُهم بالنسبة إليكم ، وقد كنت أعهد من أخلاق الملك المهلة في الأمور ، والنظر في العاقبة ، ولكن ليس هذا وقت النظر في العاقبة ، فقد تحققت أنكم الفئة الغالبة بإذن الله ، وقد رأيت من أحوال القوم ما يطيب به قلب الملك ، ثم ختم الرسالة قائلا : (نصحت فدع ريبك ودع مهلك ، والسلام) 

... الرسالة بها الكثير من البلاغة والتورية والإستعانة بٱيات القرٱن تنوبها ليحذر قائده من الوقوع في الفخ

... فلما إنتهى الكتاب إلى قائد المسلمين طالعه على أتباعه ، فألهبت قلوبهم ، وحَرَّضت عزائمهم على الخروج 

... غير أنه عندما خلا بحاشيته من النبلاء وأهل الرأي ، لم يُخفِ قلقه ، إذ قال ، (أريد أن تتأملوا هذه الرقعة ملياً ، فإني أوجست منها ريبة ، وإني غير سائر حتى أنظر في أمرها) ، فقال بعضهم ، (ما الذي راب قائدنا من الرقعة ؟!) ، أجاب ، (إن الذي بعثته من الرجال هو من ذَوِي حَصَافة الرأي ، وقد أنكرت ظاهر لفظه ، فتأملت فحواه ، فوجدت في باطنه خلاف ما يوهم الظاهر ، من ذلك قوله ، (أصبحت مستريحا من السعي) ، وكأنه يلمح لنا بأنهم أمسَكوا به وحبسوه ، وقوله ، (استضعفتُهم بالنسبة إليكم) ، أي أنهم ضِعفُ عددنا لكثرتهم ، وقوله ، (إنكم الفئة الغالبة بإذن الله) ، فأغلب الظن أنه يشير إلى قوله

تعالى ، (كَم مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَت فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذنِ اللَّه) ، أي أننا الفئة القليلة ، أما قوله ، (رأيت من أحوال القوم ما يطيب به قلب الملك) ، فإني تأملت ما بعده ، فوجدت أنه يوحي بالقلب إلى قلب الجملة ، لأن الجملة الآتية مما يوهم ذلك  وهي قوله ، (نصحت فدع ريبك ودع مهلك ، والسلام) ، وبذلك المعنى ، ومدى فصاحة الكاتب وبلاغته أنقذ جيشه من الهلاك والهزيمة

... تحياتى ...


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

مشاركة مميزة

إلى من سألني بقلم عبدالرحيم العسال

اخميمي ( إلى من سألني : هل انت اخميمي؟)  =========================== نعم يا عم أخميمي. وكم ازهو به وطنا لنا إرث وتاريخ. ونيل...