بقلم: ماهر اللطيف 🇹🇳
صعدت بسرعة إلى سطح العمارة المكوّنة من عشرة طوابق، تلك التي تسكن في إحدى شققها بالطابق الرابع مع زوجها وأطفالها.
كانت دامعة العينين، باكيةً، تصرخ بأعلى صوتها:
"يا رب سامحني، يا رب اغفر لي، يا رب استودعك أطفالي."
جسدها يرتعد، قلبها ينبض بجنون، عقلها يناشدها:
"حذاري... ستخسرين الدنيا والآخرة، وستصلين النار."
لكن نفسها تغريها، والشيطان الرجيم يؤزّها أزًّا.
تسلّقت جدار السطح، اعتلته وهي تلهث، نظرت إلى الأسفل فكاد يُغمى عليها، إذ بالكاد ترى الناس وما يحيط بهم. أغمضت عينيها سريعًا، نطقت الشهادتين، وقفزت دون تردّد، لتجد نفسها طائرةً في الهواء قبل أن ترتطم بالأرض جثةً هامدة في لحظات معدودة.
فهل هذا حلم ستستفيق منه البطلة؟
أهو مجرّد تفكير جال بخاطرها، أم جزء من حكايةٍ قرأتها؟
أم أنّه واقعٌ لا شكّ فيه؟
لكن، قبل الإجابة على هذا السؤال، علينا أن نبدأ من أوّل الحكاية.
لُجين امرأة متزوّجة منذ أكثر من عشرين سنة. أنجبت سندس وأحلام ومحمد ونور، وجميعهم في المرحلة الثانوية. زوجها إلياس، في الخمسين من عمره، يكبرها بسنتين، يعمل إطارًا ساميًا في إحدى الوزارات بالعاصمة حيث يعيشان.
حالتهما المادية مريحة بالنظر إلى أن لجين تعينه في كل كبيرة وصغيرة من راتبها الشهري، فهي أستاذة تعليم عالٍ، فضلًا عن بعض الأملاك التي ورثها عن والديه. اجتماعيًا وعائليًا، كانت الأمور تبدو على أحسن ما يُرام.
تزوّجا عن حبٍّ جمعهما منذ الصغر في الحيّ الذي ترعرعا فيه، وظنّا أن ذلك الحبّ سيخلّد حياتهما. غير أنّ زهرة ذلك الحبّ بدأت تذبل، وريح الخريف أخذت تعبث بأوراقها يومًا بعد يوم.
رويدًا رويدًا، خبت شعلة المودّة بينهما، وتقطّعت أوصال العلاقة. تعدّدت الخلافات حول تربية الأبناء ومستقبلهم، وزادت الفجوة اتساعًا مع تغلغل منصّات التواصل الاجتماعي في حياتهما، حتى غدت جدارًا بين قلبين كانا يومًا متلاصقين.
وفي إحدى الليالي، قالت له لجين وهي تستعد للنوم:
– تصدّع بيتنا، مالت جدرانه، وشاخت أسسه. صار آيلاً للسقوط. فلنهدمه نحن قبل أن يقع علينا، فقد رممناه مرارًا بلا جدوى.
– (بهدوءٍ مصطنع) راجعي تاريخ علاقتنا بإنصاف، من المسؤول عمّا وصلنا إليه؟
– (بحِدّة) أنت، بلا شكّ! أنت من دمّر هذه العائلة!
– (ضاربًا كفّيه بغضب) ألا تخجلين؟ تريدين لعب دور الضحية وأنت الجلاد!
تحوّل الحوار إلى عراكٍ طويلٍ من تبادل التهم واللوم، لينتهي ككلّ مرة دون اتفاق. حمل إلياس وسادته وغادر إلى غرفة الجلوس لينام وحيدًا، بينما بقيت لجين ثائرةً، تلعن وتبكي وتسترجع كلمات والديها اللذين حذّراها منذ البداية من هذا الزواج، لكنها يومها وقفت في وجههما دفاعًا عن حبّها الذي تبيّن لاحقًا أنه قصرٌ من ورق.
مع مرور الأيام، وجد كلّ منهما ملاذًا افتراضيًا في أحد مواقع التواصل. بدأت الرسائل، ثم الأحاديث، فالمشاعر... حتى تورّطا في علاقات مشبوهة ومحرمّة، وارتكبا ما لا يقرّه دينٌ ولا عقل.
انشغلا عن أبنائهما، أهملوهما تمامًا. ولولا اتّحاد الإخوة الأربعة ودعمهم لبعضهم، لكانت النتائج وخيمة. ومع ذلك، تراجعت مستوياتهم الدراسية، وتزلزلت ثقتهم في والديهم.
وفي يومٍ مشؤوم، قصدت لجين طبيبتها بعدما أحسّت بآلامٍ تمزّق جسدها. خضعت للفحوصات والتحاليل أكثر من مرة، لكن النتيجة كانت واحدة:
"سرطان منتشر في كامل الجسد، في المرحلة نهائية."
انطفأت كلّ الأنوار في عينيها. عادت إلى البيت مكسورة الخاطر، يائسة، تتشبّث ببقية من أمل أن تقضي ما تبقّى من عمرها بقرب عائلتها، في دفء الحب والاحترام والسلام.
لكنها، في اليوم نفسه، وبينما كانت تُعدّ الغداء، تلقت مكالمةً مجهولة:
– هل تعلمين أن ردينة، عشيقة زوجك، حاملٌ منه في شهرها الخامس؟
تجمّد الدم في عروقها، واسودّت الدنيا في وجهها. بكت، صرخت، ضربت وجهها وركلت الأرض بقدميها. كانت في لحظةٍ من جنونٍ مطلق، لم تذكر الله، لم تستعن به، لم تطلب رحمته. فاستغلّ الشيطان تلك الثغرة، وغلبها يأسُها وضعفُها.
صعدت إلى السطح كما في بداية الحكاية. لم يكن في قلبها غير صوتٍ واحدٍ يهمس:
"ارتاحي... انتهى كل شيء."
وما علمت أن النهاية التي اختارتها هي بداية عذابٍ آخر، فقد خسرت الدارين عن طواعيةٍ ووعيٍ كاملين.
قال الله تعالى في كتابه الحكيم:
"وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا، وَمَنْ يَفْعَلْ ذَٰلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا ۚ وَكَانَ ذَٰلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا."
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق