َِطريق بلا عودة
ً في ذلـك الوقـت مـن الليـل أقـف وحيـدا، خيـم الظـلام وخلـت كل الشـوارع مـن المارة، لا أكاد أسـمع صـوت، يتسرب إلى عقـي الشـعور بخيبـة الأمـل، لا ألمح سـيارة تمر مـن هـذا الطريـق، أنتظـر المجهـول برجـاء، أفقـد الأمـل في العـودة إلى بيتـي.
ًانهيت عملي متأخرًا تلـك الليلـة، لم أشـعر بمرور الوقـت، تحركـت من مكاني مندفعًا عابرًا الشــوارع الخاليــة، تنقلــت مــن مــكان إلى آخر لعلي أصل إلى ضالتي، فنقلتنـي سـيارة إلى بلدتي البعيـدة، وعنـد مفترق الطرق أضــاء كشــاف ســيارة مندفعــة في عينــي، شــعرت أن هــذه فرصتــي الوحيــدة في النجــاة، اندفعــت داخلهــا دون أن ألفــظ كلمـة، وانطلـق بي السـائق على الفـور، سـألني عـن وجهتـي فَصِمتُ، ِخشــيت أن يتركنــي وحيــدًا ويقذفنــي مــن ســيارته إلى هــذا الفضــاء المتسـع، نظـرت إليـه في قلـق، كـرر سـؤاله ثانيـة، التفـتُ إليـه فأصابنـي الهلــع عنــد رؤيتــه عــن كَثَــب، لحيتــه كثــة ووجهــه طويــل وعينــاه تبُوحان بالقسـوة والغـدر، أجبـت بعبـارات مقتضبـة وصـوت مختنـق، انطلــق في طريقــه مواصلًا الحديــث، أزعجنــي صوتــه الجهــوري،
وارتجـف قلبـي مـن ملامحـه الغليظـة.
ْاحتوتنـي الهواجس والظنون، أغمضـت عينـيَّ فوجدتُنـي محمولًا بين ذراعيه الطويلتين مغشيًا علىَّ، تحيـط بي مجموعـة مـن الرجـال يرتـدون سـترات بيضـاء، تطـل مـن أعينهـم نظـرات غير آدميـة، وتلمـع بين أيديهـم آلات حـادة، ثبتوني على طاولـة كبيرة أمامهـم، ثـم التفوا حـولي يقطعـون أعضائي، بخفـة متناهيـة يفصلـون القلـب عـن الشرايين والأوردة العالقـة بـه، ثـم يضعونـه في صنـدوق صغير، ويسـتمر عملهـم بنشــاط دون توقــف، أحــاول أن أتبين ملامحهم ولكنني لا أســتطيع.
شــعرت بأنفــاسي تتوقــف شــيئًا فشيئًا، آلاتهم تعج في صدري، فيخرجون منه جزءًا تلو الآخر،ويثبــت كل عضــو عـلى حــدة في صناديــق متباينــة الألـوان والأحجام، وتســيل دمــائي بغــزارة ولا أحد يحــرك ســاكنًا.
ُ انتبهـت مـن غفـوتي، تحسسـت جسـدي، حملقت بعيوني المتوجسـة في وجهه، فوجدته ثابتًا، حاولـت أن ألقـي بنفسي مـن بـاب الســيارة المندفعة، ولكن شيئًا ما منعنـي، حـدق السـائق في وجهـي بعينـين مندهشتين، ثـم انعطـف عـن الطريـق المعتـاد، أدركـت أنـه قـد حانت الآن نهايتـي، اسـتمر في طريقـه بـلا توقـف.
بــدأت أتفحــص ملامحه الجامدة، وأرتـل أدعيــة وابتهالات للــه، وأدعــوه أن ينجينــي مــن كــربي، اســتجدي بعضا مــن شجاعتي المعهــودة، ولكنــه فجــأة ســلك الطريــق الصحيــح للبلــدة، وبالفعــل اقربت منهــا، سكَنت مشــاعري ودبـت الطمأنينــة في قلبــي.
بـدأت هواجـس الهلـع تتـلاشى، وشـعرت بالألفـة تجاهـه، تحولـت ملامحـه الغليظـة إلى ملامـح عطوفـة، شـعرت بـدفء مشـاعره وكأنـه صديــق حميــم، فســكن قلبــي وثلجــت أطرافي، وقبــل دخولنــا إلى القرية، ناولنــي علبــة عصير باردة، جذبتها من يده وتجرعت ها بشراهة، بــدأت أشــعر بتثاقل يسري في رأسيً، غبت عن الوعي، وفقــدت قدرتي عـلى الحركة والنطق تمامًا.
بقلمى.. محمد كامل حامد
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق