السموأل بن عادياء و امرؤ القيس .. قصة ( وفاء ) حتى الدماء
السموأل بن عادياء : شاعِر يهودي عربي جاهلي ذو بيان وبلاغة وحكمة و أشعاره من أبلغ ما قالت العرب , اسم السموأل معرب من الاسم العبري صموئيل ، وكان يملك حصناً في شمال الجزيرة يسمى حصن الأبلق .
عرف السموأل لدى العرب برجولته و فروسيته و مواقفه النبيلة وكان له قصة مع ذلك الخُلق الجميل ( الوفــــاء ) .. فقد دفع لوفائه للشاعر العربي امرؤ القيس ثمناً باهضاً اصبح يضرب به المثل لدى العرب ..
قصته بدأت مع ضياع المُلْك من امرئ القيس الكندي ، فبعد زوال مُلْك أبيه أحب أن ينتصر له ؛ فجمع السلاح ، و أودع امرؤ القيس دروعه وأسلحته عند السموأل ، لكن الذي حدث أن صاحب الأمانة امرؤ القيس مات ، فأرسل ملك كندة يطلب الدروع من السموأل ، فرفض أن يعطيه الدروع قائلًا له : إنه لن يدفعها إلا لمستحقها .
فعاود الملك الطلب ، وثبت السموأل عند رفضه ، مؤكدًا : لا أغدر بذمتي ، ولا أخون أمانتي ولا اترك الوفاء المفروض عليّ .
فرأى ملك كندة أن يحارب الشاعر العنيد ، فحاصر جنده حصن السموأل ، وصادف أن قبض جيش كندة على ابن السموأل خارج الحصن ، فأخذه رهينة وساوم الملك الكندي الشاعر السموأل أن سلم الدروع وإلا قتلت ابنك . لقد كانت لحظة اختيار صعبة ، أيضُحي بابنه أم يضحي بكلمته ؟
موقف صعب ، أليس كذلك ؟؟!
لكن السموأل حسم أمره وقال : " ما كنت أخون عهدي وأبطل وفائي فاصنع ما شئت " .
وذُبِح ابن السموأل وأبوه ينظر إليه من أعلى الحصن ، وعاد ملك كندة خائبًا ..
ثم وافى السموأل بالأدرع و أعطاها الى ورثة امرئ القيس
وقد قال الأعشى في السموأل شعراً جميلاً يمدح فيه إخلاصه و وفاءه ، قال :
كُنْ كَالسَّمَوْءَلِ إِذْ طَافَ الْهُمَامُ بِهِ ** فِي جَحْفَلٍ كَسَوَادِ اللَّيْلِ جَرَّارِ
بِالأَبْلَقِ الْفَرْدِ مِنْ تَيْمَاءَ مَنْزِلُهُ ** حِصْنٌ حَصِينٌ وَجَارٌ غَيْرُ غَدَّارِ
فَسَامَهُ خُطَّتَيْ خَسْفٍ فَقَالَ لَهُ ** قُلْ مَا بَدَا لَكَ إِنِّي مَانِعٌ جَارِي
فَقَالَ ثُكْلٌ وَغَدْرٌ أَنْتَ بَيْنَهُمَا** فَاخْتَرْ وَمَا فِيهِمَا حَظٌّ لِمُخَتَارِ
فَشَكَّ غَيْرَ طَوِيلٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ ** اقْتُلْ أَسِيرَكَ إِنِّي مَانِعٌ جَارِي
...
السموأل هو ذلك الرجل الذي ضربت العرب المثل بوفاءه فقالت: أوفى من سموأل حتى كان لوفاءه الحظوة في نفسه عن المال والولد .. ولو احتفظت العرب في وقتنا الحاضر بوفاء كوفاء السموأل لم نجد لبني صهيون مقاماً بيننا .
...
والسموأل رغم جاهليته إلا أنه عرف أن من طباع العرب حفظ الأمانات وهو طابع ليس بالسهل تأديته على خير وجه .. ولكن لننظر للسموأل وأمانة امرئ القيس التي حفظها ..
فقد أعطى امرؤ القيس السموألَ دروع أجداده الشهيرة ومعها بعض الكنوز لما أراد التوجه لقيصر الروم وكان ذلك لإيمانه أنه لن يعود وفي ذلك قال امرؤ القيس وصاحبه معه في الطريق :
بكى صاحبي لما رأى الدرب دونه ــــــــــ وأيقن أنّا لاحقان بقيصرا
فقلت له: لا تبك عينك إنما ــــــــــــــ نحاول ملكاً أو نموت فنعذرا
وهو ما حدث فقد مات امرؤ القيس .. حينها طلب ملك كندة تلك الدروع والكنوز من السموأل ، فأبى السموأل أن لا يدفعها إلا لمستحقها .. فتوعده الملك مرة يرهِّبه ومرة يرغِّبه دونما جدوى . حينها سار إليه الملك الكندي من نجد إلى حصن الأبلق بجيش جرار (وحصن الأبلق هو حصن السموأل وهو لا يزال موجوداً في تيماء السعودية بالقرب من تبوك) .. فلما علم السموأل بقدوم الجيش اعتصم بالحصن وكان ولده حينها خارج الحصن في رحلة صيد فلما وصل الملك وجنده تمت محاصرة الحصن وبعد الإشتباكات ظفر الملك بولد السموأل عندما عاد من رحلة الصيد .. فأخذ يطوف به حول الحصن وهو ينادي بالسموأل .. فأشرف السموأل عليه من فوق الحصن فلما رآه الملك أخذ يصيح له قائلاً : أيها السموأل قد ظفرنا بولدك وهاهو أمامك ، السيف فوق رقبته والسيَّاف حاضر .. فإن أعطيتنا ما جئنا لأجله أخلينا عن ولدك وأحسنا لك .. وإن أبيت قطعنا أوداجه أمامك فاختر ما شئت ..
فقال أحد الأزديين للسموأل : يابن عادياء قد حفظت أمانتك قدر المستطاع وامرؤ القيس قد مات وهذا الملك خلف له فادفع له ما يريد وخلِّص ابنك فإنه فارسنا وكريمنا الذي لن نرضى بقتله من أجل أدرع الكندي ..
حينها فكر السموأل قليلاً ثم صاح للملك قائلاً : ورب السماء لن أخون ذمتي .. ولن أجعل العرب تعيرني بقلة وفائي .. وولدي بين يديك أمانة فإن قتلته كنتُ وبقية أولادي له خير خلف وإن تركته ما كنت لأعطيك أمانة في عنقي .. فافعل ما شئت ..
حينها أمر الملك السيَّاف أن يقتل ابنه أمامه .. فقال السموأل :
وفيتُ بأدرع الكندي إني ــــــــــ إذا ما خان أقوامٌ وفيتُ
وأوصى عادياً بأن لا ــــــــــ تخرِّب يا سموأل ما بنيتُ
بنى لي عادياً حصناً حصيناً ـــــــ وماء كلما شئت اشتفيتُ
واستمر الملك الكندي في محاصرته حتى يأس من اقتحام الحصن فعاد خائباً من حيث أتى ، وبعد سنة قدم ورثة امرئ القيس له فأعطاهم الدروع والأمانة قائلاً :
وإنا لقومٌ لا نرى القتل سبة ـــــــــــــ إذا ما رأته عامرٌ وسلولُ
يقرِّب حب الموت آجالنا لها ــــــــــــ وتكرهه آجالهم فتطولُ
إذا سيدٌ منا خلا قام سيدٌ ــــــــــــ قؤولٌ لما قال الكرام فعولُ
فشكروا له حفظه للأمانة ، وصبروه لموت ابنه .
وقد قصَّ الأعشى "شاعر العرب" قصة السموأل في قصيدة له أشبه بالملحمة الشعرية يقولُ فيها :
كن كالسموأل إذ طاف الهمام به ــــــــــــ في جحفل كسواد الليل جرَّار ِ
بالأبلق الفرد من تيماء منزله ـــــــــــــــ حصن حصين وجار غير غدار ِ
فقال: ثكلٌ وغدرٌ أنت بينهما ــــــــــــــ فاخنر فما فيهما حظٌ لمختار ِ
أأقتل إبنك صبراً أو تجيء بها ـــــــــــــــ طوعاً؟، فأنكر هذا أي إنكار ِ
فشك غير طويل ثم قال له: ـــــــــــــــ أقتلْ أسيرك إني مانعٌ جاري
أنا له خلفُ إن كنت قاتله ــــــــــــــ وإن قتلتَ كريماً غيرَ خوَّار ِ
وسوف يعقبهُ إن كنت قاتله ــــــــــــ ربٌّ كريمٌ وبيض ذات أطهار ِ
فقال محتدماً إذ قام يقتله: ــــــــــــ أشرف سموأل وانظر للدم الجاري
فشج أوداجه والصدر في مضضٍ ـــــــــــ عليه منطوياً كاللذع بالنار ِ
واختار أدرعه كيلا يُسبَّ بها ـــــــــــــ ولم يكن عهده فيها بختَّار ِ
وقال لا أشتري عاراً بمكرمةٍ ــــــــــــ واختار مكرمة الدنيا على العار ِ
والصبر منه قديماً شيمة خلقٍ ـــــــــــ وزنده في الوفاء الثاقب الواري
هذا هو وفاء العرب قبل المذهبية و قبل الطائفيه .. وهذه أخلاقهم التي للأسف فقدنا الكثير منها .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق