يصفه جيرانه ومعارفه بغليظ الطبع، وثقيل النفس، وحاد المزاج، وسَيِّءِ المعشر، ويتداولون بينهم أنه مريضٌ نفسيا، وإذ هو صبي لم يشب عن الطوق، ولم يبلغ بعدُ أوان حلمه، فإنه عاش حال اليُتم والفقر الشديد، ولم يجد العناية والرعاية اللازمتين كغيره من أقرانه، ولم يلق الاهتمام والحنان والعطف من مُحيطه البائس المتخلف، فأثَّر ذلك على تكوينه النفسي، وانعكس بالسُّوء على شخصه وتصرفاته، وانمحت وزالت من فكره وقناعاتِهِ وأحاسيسِهِ إنسانيتُهُ، فشب فظا جافا قاسيا حادا أنانيا، فالجميع يتجنبه ويتحاشاه، ولا يكاد أحد يسلم من شَرِّهِ وأذاه، فهو البغيض الثقيل أينما حَلّ وارتحل، وإذا كان بمقدور الناس وبإمكانهم تجنبه وتفاديه، بعدم الاختلاط به وعدم التعامل معه، فإن ذلك مع أسرته مُنتَفٍ وغير ممكن، تعيش أسرته معه في ضنك ومعاناة، وجَوّ شديد من التوتر والخوف، لشخصه العنيف المرعب غير السَّوي ولا المنطقي، وسلوكه التسلطي الاستحواذي الهمجي الأناني والجاهل، فأحواله العامة أشبه ما تكون بأحوال المجانين.
عاد من عمله مُنهكا مثل كل المرات، وأسند ظهره إلى الحائط لالتقاط الأنفاس، فالفقر والحاجة تجعلان صاحبهما يوميا يسعى ويكد، لتوفير لقمة يتبلغ بها مع أسرته، على الأقل تمنع من القضاء جُوعا، فوضعت زوجته صحن الطعام، وبه خمس سمكات على غير العادة، وتحلق أبناؤه الثمانية حول الصحن، ترمق أعينهم السمكات بشراهة ونهم، نظر هو في السمكات بتركيز غير مسبوق، ونظر حاد غير مفهوم لبرهة من الزمن، ثم سأل زوجته عن مصدرها، فأخبرته بأن ولده الكبير صادها من النهر الذي يمر بالقرب من قريتهم، فاستشاط غضبا وأعلى صوته على ابنه موبخا ومؤنبا: ألم أنهك عن الاقتراب من النهر؟ ألم أخبرك أن النهر ماؤه آسن، وملوث بفعل القاذورات التي يُلقيها فيه أهل القرية؟ ألم أقل لك: لا تُصاحب أولئك الأوباش الذين لا يُعَلِّمُونَكَ إلا السُّوء والمخازي، متى تسمع الكلام وتكف عن البلاهة والشقاوة والعقوق؟ ثم التفت إلى زوجته ووبخها هي كذلك لأنها طهت السمكات، ولم تمنع ولدهما من الذهاب إلى النهر مع الأولاد... .
حوَّل تحلقهم حول الصحن إلى محاكمة ومأتم، ونغَّص عليهم شهيتهم لأكلة لا تتكرر إلا نادرا، ولا تُسمن ولا تُغني من جوع، سوى رائحتها وذوقها المغري والمستفز، ثم ازداد غضبه وانتفخت أوداجه، وشتمهم ونهرهم ثم أمرهم بالخروج من أمامه.
مكث دقائق معدودات، ثم رمق صحن السمكات، وثبَّت ناظريه فيه فترة قصيرة من الزمن، ثم أخذ نفسا عميقا وتنهد، وتقدم نحو الصَّحن حَبوًا، وتمتم ببسم الله، ثم التهم السمكات الخمس بعنف وشراهة، وتمتم مرة أخرى بالحمد لله، اللهم أدمها نعمة واحفظها من الزوال، ثم زحف على ركبتيه إلى فراشه، ووضع رأسه على الوسادة، وراح يغط في نوم عميق، مع شخير مُدَوٍّ يهز الأرجاء، يُخَيَّلُ لسامعه صوت أوداج تشخب دما لذبيح.
بقلم: عبد الكريم علمي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق