الثقافة والذكاء والنصاحة
بقلمى : د/علوى القاضى.
... رحمها الله كانت تثق فى آراءى وأسلوب تفكيرى وفطنتى وردود أفعالى منذ نعومة أظافرى ، لذلك فإننى كنت بالنسبة لها الناصح الأمين والمفكر المستنير والمثقف الفيلسوف
... رغم أننى كنت لاأستطيع التفرقة بين كل هذه الصفات اللهم إلا اذا مررت بمواقف تظهر فيها هذه المواهب العظيمة كما كانت فى نظر أمى ست الحبايب
... والأجمل من ذلك أن الثلاث صفات تعايشت معهن فى موقف واحد وكان درسا لى مدى الحياة
... فى يوم كلفتنى أن أشترى لها فاكهة
... وكنت أقف لدى أحد المحلات أبتاع منه الفاكهة ، وكان سعرها رخيصا وفى المتناول ! وكان الفاكهى يتسلى بممارسة ( النصاحة ) معي ، وهو يسخر في سره من دكتور مثلى فأنا فى نظره أفندي مشغول بالعلم ولا أفهم فى أمور البيع والشراء ومن السهل أن يستغفلنى ويستغلنى
... وفوق كل ذلك أن أموالى كثيرة فى نظره فلا بأس أن يتناصح على إما فى الميزان أو جودة المنتج فسوف أتغاضى عما يفعله ، لذلك اعتقد انه يمكنه أن يقنعنى بأي شيء أو يدس لى أردأ وحدات الفاكهة ، مقنعًا إياى أنها ( وحدات ) نادرة ذات ثمن خاص
... وأثناء ماكان يلهيني بحواره حتى يتمكن أن يدس حبات فاسدة فى الميزان رأيت رجلا مسنا تجاوز الستين من العمر يخطو مترنحا في الشارع أمام محل الفاكهة ، ثم سقط أرضًا فاقدا الوعي ، تعاوننا على نقله إلى داخل المحل وقدمنا له كوب ماء وتعاطف الجميع معه إلا بائع الفاكهة
... الرجل كان عجوزا بسيطا ريفيا لا يكف عن البكاء الهستيري ولطم الخدين وفي يده لمحت رزمة ممزقة من الورق يطل منها بعض الورق الأبيض بحجم ورقة البنكنوت
... حينما هدأ روعة وتمكن من الكلام ، قال إنه من الباجور ، وهو مركز صغير من مراكز المنوفية يقع على بعد ثلث ساعة من سرس الليان بلدتى
... قال إنه كان في موقف السيارات يبغي الركوب لسرس الليان ، عندما توقفت سيارة أمامه بها رجلان ، أحد الرجلين ناداه بإسمه وقال له أنه صديق إبنه وعرض عليه توصيله لسرس الليان
... وافق العجوز في حماسة على سبيل ( الإستغلال أو النصاحة )
... وهو في الطريق إلى سرس دار حوار سريع بينه وبين الرجلين فقد أبدوا إعجابهم بالساعة المذهبة التي يلبسها ، وعرضا عليه أن يشتريا منه هذه الساعة الذهبيه بثلاثين ألف جنيه ( وهو مبلغ ممتاز بأسعار الذهب وقتها ) فوافق على الفور ، وتم التبادل أخذا منه الساعة الذهب وناولاه لفافة مليئة بالبنكنوت وعدّا له الرزم ، واحد ، اتنين ، ثلاث رزم ، مبروك
...ثم أنه ترجل من السيارة في سرس الليان سعيدا بالصفقة الذكية التي أبرمها ، وفتح اللفافة ( بمجرد إبتعاد السيارة ) ليرى المال فاكتشف أنها أوراق بيضاء غلفت بالعملة على الجانبين على طريقة أفلام السينما صرخ ولطم الخدين وغاب عن الوعي
... كان الفاكهى يستمع له في قسوة وغير تعاطف وهو يستمتع بتدخين سيجارته المفضلة وكوب الشاى المغلى ، أما أنا فكنت في ذهول من كل هذا القدر من الجشع والحمق والغباء للرجلين وثالثهما العجوز المجنى عليه
... فالصفقات لا تتم بهذه السرعة والسهولة ، لا أحد يركب مع غرباء ، فإذا ركب حتى فهو لا يبيع ساعته المذهبة ، فإذا باع حتى فهو لا يأخذ رزم مال مغلفة لا يعرف ما فيها ، كان فى نظرى وكأنه بقرة آدمية لايفقه شيئا فى أمور الدنيا
... قال له الفاكهى في فتور إن عليه أن يذهب لقسم الشرطة ليبلغ عن النصب الذي تعرض له ، فعرض العجوز على في حماسة وأريحية أن آخذه إلى هناك بسيارتي
... ولكن الفاكهى انحنى علي وهمس لى من تحت شاربه الغليظ ودخان سيجارته الكثيف : « لاتتورط يا دكتور ، سوف يتهمك بأنك من سرق ساعته الذهب بمجرد أن تنزل أمام قسم الشرطة ! »
... قلت له في استغراب وعدم فهم : « كيف ؟! ، إنه ضحية ! »
... فانفعل وعلى صوته « اسمع الكلام ! »
... ثم مد يده طالبًا ثلاثة جنيهات مني
... كان هذا هو أجر سيارة الأجرة وقتها ، ثم لوح بسيجارته لسيارة مارة ففتح الباب وألقى بالرجل العجوز إلقاءا داخل السيارة ، وكأنه يريد أن يتخلص منه ، ودفع للسائق الثلاثة جنيهات ، وأمره أن يأخذه إلى قسم الشرطة وأوصاه « خلي بالك منه ياهندزة .. ده زي والدك »
... ابتعدت سيارة الأجرة وهنا أطل العجوز من النافذة وصاح بصوت رفيع وهو يشير نحوي : « هو ده اللي .. »
... لكن السيارة كانت قد ابتعدت فلم اسمع ماقاله
... قال الفاكهى وهو يزن الفاكهة الرديئة لي لأنصرف : « لايمكن تصديق قصته ، لا يوجد أحد بهذه البلاهة ، يبدو أنه قام باختلاق الأمر كله وهناك احتمالان
... الإحتمال الأول وهو كبير جدًا أنه كاذب ، ويريد توريط دكتور أفندى مثلك في مشكلة ليدفع له
... الإحتمال الثاني أن قصته حقيقية وأنه فعلاً بهذا الغباء والطمع ومن الوارد جدًا أن يتمسك بك ويصرخ أمام قسم الشرطة ليورطك في فضيحة ودفع مبلغ يعوض خسارته
... صدقني يا دكتور نحن فعلنا الشيء الصحيح »
... تذكرت وجهه الغبي الجشع وهو ينظر من النافذة كبقرة آدمية
... ( هو ده اللي .. ؟ ) ، ماذا كان ينوي قوله ؟ !
... ولكن ضيق الأفق التي معها لا يمكن التنبؤ برد فعله
... تذكرت مايحدث فى معظم الأفلام حينما يكون عرضا قانونيا لمجرمين أمام المجنى عليه
... ومايحدث من انفعالات أو إفتعالات كما حدث فى [ رواية يوميات نائب في الأرياف ] عندما وقف وكيل النيابة الشاب مع توفيق الحكيم يراقبان عرضًا قانونيًا أمام فلاحة مسنة
... أوقفوا أمامها صفًا من الرجال لتختار من قتل زوجها منهم
... تجاوزت الصف كله ثم أمسكت بقبضتها على صدر وكيل النيابة الشاب صارخة : " غريمي ، هو من قتل زوجى ! "
... قال توفيق الحكيم : إنه منذ ذلك الحين فقدت الثقة في قيمة العروض القانونية مع كل هذا الغباء ، ومع ضعف البصر والبصيرة الذين قضوا على بصر هؤلاء القوم
... شكرت الفاكهى وأنا أحمل فاكهته الرديئة ، وقلت لنفسي إنه رجل أريب حذر يملك قدرًا هائلاً من ( النصاحة ) التى اختفت أمامها ( ثقافتى ) وتضاءل أمامها ( ذكاءى )
... فقد تخلص من الرجل العجوز ، ولم يدفع حتى ثمن سيارة الأجرة بل تقاضاه مني ، ثم تخلص من أفسد حبات الفاكهه لديه وباعها لى دون اعتراض منى
... وبعد عودتى قالت أمى عندما فتحت كيس الفاكهه : « كيف ينجح الفاكهى في خداع رجل مثقف وذكى مثلك ؟ ! »
... قلت لها وأنا أتخلص من ملابسى الشاهدة الوحيدة على هزيمة ثقافتى وذكائى أمام نصاحة البائع : « الثقافة شيء والذكاء شيء والنصاحة شيء آخر
... كل ماأعرفه وأقتنع به هو أنه أنقذني من مشاكل محتملة لاحصر لها ، لهذا أنحني له احترامًا وتوقيرًا ، لقد استحق أن يخدعني وينتصر بنصاحته على ثقافتى وذكائى »
... تحياتى