«[3]» الرويبضة ونظام التفاهة «[3]»
دراسة وتحليل : د/علوى القاضى
... في الجزء الأول تأكدنا أن التافهين نجحوا في السيطرة علي مفاصل المجتمعات وتحكموا في ثقافة وتفكير البشر لصالح أصحاب رؤوس الأموال ، وفى الجزء الثانى وجدنا كيف أن نظام التفاهة سيطر على السياسة والإقتصاد والثقافة والعلم والٱن نستكمل
... التفاهة - على عكس ما تحيل إليه - مسألة جدّية بإمتياز ، هكذا يُخبرنا المؤلف ، فالتغاضي عنها ، يعني في مايعنيه تسليم البشرية إلى مصير كارثيّ ، إنها مسألة حياة أو موت بالنسبة للمجتمعات المعاصرة ، الإشكالية ببساطة تتمثل في أن النظام السائد في العالم ، قد أدّى إلى سيطرة التافهين على مواقع أساسية من الخريطة الإجتماعية ، يكفي أن تنظر حولك لترى هؤلاء وقد إخترقوا السياسة والإعلام والفن ، وهو واقع يصفه الكاتب بالقول ( لقد تشيّدت شريحة كاملة من التافهين والجاهلين وذوي البساطة الفكرية وكل ذلك لخدمة أغراض السوق بالنهاية )
... والكاتب يتكلم عن صدارة الحمقي والمرضي للمشهد ، ومايسمي الترند ، هذا الكتاب فيه جمله تلخصه بأفكاره ( لاتجعلوا من الحمقى والتافهين مشاهير ) ، وهذا هو الحال الذي وصلنا له ، فنجد مختل عقليا يصبح ترند ، زبال مع إحترامي لعمال النظافة يصبح ترند ، والكل عاوز يركب الترند ، ومازال كل يوم يظهر لنا ترند جديد ، ورسالتهم لنا ( إوعي تشغل مخك إحنا هنشغله بالنيابه عنك ) ، تغييب للعقل
... لأن عنوان الكتاب أثار فضولي ، في البداية قرأت المقدمة ، وكانت وصف دقيق لواقع العالم الجديد والقرية العالمية المحكومة من رأس المال ، ملخصها ( لو نظرنا حولنا سنجد أننا نعيش مرحلة تاريخية غير مسبوقة ، تتعلق بسيادة نظام رأسمالي أدى تدريجياً إلى سيطرة التافهين على جميع مفاصل نموذج الدولة الحديثة ، حيث يلحظ المرء صعوداً غريباً للرداءة والإنحطاط ، إذ تدهورت متطلبات الجودة العالية ، وتم تغييب الأداء الرفيع ، وهُمّشت منظومات القيم ، وبرزت الأذواق المنحطة ، وأُبعد الأكفاء ، وخلت الساحة من التحديات ، فتسيّدت إثر ذلك شريحة كاملة من التافهين والجاهلين الذين لايفكرون أبعد من أنوفهم )
... في هذه المرحلة صار كل نشاط في الحقل العام ، في السياسة والإعلام والتربية والتعليم والعمل النقابي والتجارة أقرب إلى ( لعبة ) أبطالها تافهون ولاقواعد مكتوبة لها ، ومعيارها الوحيد إختزال النشاط إلى مجرد حسابات تتعلق بالربح والخسارة ( الماديين ) كالمال والثروة ، أو ( المعنويين ) كالسمعة والشهرة والعلاقات الإجتماعية ، إلى أن يصاب الجسد الإجتماعي بالفساد بصورة بنيوية
... وبالرغم من وجود أشخاص طموحين من ذوي المعايير العالية المستوى ينشدون النجاح والتألق والإبداع ، فإن أشخاصاً آخرين من ذوي المعايير المتدنية ، الذين يبحثون عن النجاح السهل هم من يديروا ( اللعبة ) ، لأنهم أقرب إلى كسل العقل ، ونبذ الجهد ، والقبول بكل ماهو كاف للحدود الدنيا دون طموح ، في النهاية يتم إيهام الناس بأنه لاشيء مهم ، لا السياسة ولا الجامعة ولا الإعلام ولاالمصالح العامة أمام ( لعبة ) المصالح الخاصة المادية
... يستخدم التافهون بتهافتهم ( لغة خشبية ) جوفاء ، تقوم على الحشو والنطق ، بتحصيل الحاصل ، وتكرار الكلام بألفاظ مختلفة ، للإيهام بوجود قضية جديدة ، وبذلك يتحول الكلام إلى خطاب أجوف ، صالح لكل زمان ومكان ، كل ذلك يشير إلى تسيّد الفقر الفكري المدقع ، الذي يعتبر من أهم أصول التفاهة ، يتمثل ذلك باعتماد ( الخبير ) ممثلاً للسلطة ، وممثلا لنظام التفاهة بديلاً عن ( المثقف ) ذي الفكر الحر الملتزم بالقيم والمبادئ
... في نظام التفاهة ، تفرغ ( السياسة ) من الأفكار الكبرى ، كالحق والواجب والعمل والإلتزام والقيمة والصالح العام ، ويخلو العمل العام من منظومات الأخلاق والمفاهيم والمثل العليا والمواطنة والإلتزام ، وينحصر الهاجس بتحقيق الربح وكأن الدولة محض شركة تجارية
... في نظام التفاهة يحول السياسيون ( الجامعات ) من مراكز للبحث العلمي ، وإنتاج المعرفة ، وتخريج العلماء ، إلى حلبة يتسابق عليها الجهلة للحصول على شهادات فارغة من العلم والكفاءة ، بحيث يصبح أكثر الناس يقيناً هم أكثرهم جهلاً ، ذلك أن نظام التفاهة يثبت فعاليته القصوى مع هذه النماذج
... قدم المؤلف هذا التحليلً النقديً للظاهرة المُقلقة لسيطرة ( التافهين ) على مختلف جوانب الحياة المعاصرة :
..(أولاً) سيادة التفاهة ، يُشير دونو إلى هيمنة ثقافة التفاهة والسطحية على المجتمعات الحديثة ، ممّا يُهدد القيم العميقة والجدية
..(ثانياً) صفات التافهين ، يصفهم بأنهم أشخاص يفتقرون إلى المعرفة والثقافة ، ويُركزون على تحقيق الشهرة والمال دون إهتمام حقيقي بالقضايا الجوهرية
..(ثالثًا) آليات سيطرة التفاهة ، كيف يستغل التافهون وسائل الإعلام والرأسمالية لبسط سيطرتهم ونشر ثقافتهم السطحية ، ممّا يُثبط التفكير النقدي
..(رابعًا) عواقب سيطرة التفاهة ، يُحذّرنا الكاتب من مخاطر سيطرة التفاهة على المجتمع ، مثل ، تراجع القيم الأخلاقية ، وتفشي الفساد وضعف المؤسسات الديمقراطية
..(خامسًا) المقاومة ، يُقدم الكاتب بعض الأفكار لمقاومة هيمنة التفاهة منها ، دعم الثقافة المستقلة ، تعزيز التفكير النقدي ، المشاركة السياسية الفاعلة
... ماقدمه الكاتب كان تحليلاً تاريخيًا لظهور (التافهين) وصعودهم إلى السلطة ، وناقش دور المثقفين في مقاومة (نظام التفاهة)
... ومن سمات الشخص التافه يقول المؤلف ، أنه الشخص العادي والمتوسط ، والذي لايلمع في أي مجال ، وبدون موهبة ، وقسم الكاتب الأشخاص التافهين إلى :
.( الكسير ) ، وهو الفرد الذي يرفض النظام بالأنسحاب لا بالتعبير عن رفضه
.( التافه ) بطبيعته ، وهو الفرد الذي يصدق نظام التفاهه
.( المتعصب ) ، وهو الفرد الباحث عن مكانة عالية ضمن هذا النظام ، ويعتبر أن كل مايهدد نظام التفاهة هو تهديد له
.( التافه ) رغم عنه ، وهو فرد مجبر تسخره الواجبات لخدمة النظام ، لأعانة أبنائهم لبلوغ مواقع إجتماعية عالية
.( الطائش ) ، وهو الفرد الذي ينتقد هذا النظام وفي الحقيقة هو يعمل به ويتعايش معه
... الوعي وعلاقته بنظام التفاهه ، ( فقد رأى المؤلف بأننا نعيش في مرحلة تاريخية شبيهة ( بنظام التافهين ) ، حيث يبسط فيها التافهون نفوذهم على الحكم كما يدعوهم في كافة مجالات الدولة ، ليس هذا فقط ، فلنظام التفاهة رموز تافهة ، ولغة تافهة ، وشخصيات وأدوات تافهة خاصة به ، أما السر الخطير خلف نجاح ذلك النظام يكمن في قدرته العظمى على إيهام الأفراد بأنهم أحراراً في مايفعلون ، بينما هم مسيسون بسياسة القطيع )
... وإلى لقاء فى الجزء الرابع إن قدر لنا ذلك وقدرت لنا الحياة