( بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ وَ يَبْغِيَانِ .. !! ) .. د.جَنَّات إِيَاد و د.مهندس/ إِيَاد الصَّاوِي .
" بين النص والتعليق "
خلق الله الكون في نظام يُدهِش اللب ، حتى اتسق كلٌّ في فلكه بلا عدوان ، حتى في ذوات الجنس الواحد ، والتقاء الماءِ بالماء أجل برهان على هذا ، حتى قال الله تعالى : ( مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ * بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لا يَبْغِيَانِ ) ..
وبين النصوص الأدبية في ذواتها والقارئ الذي ندرك كيف هو من تعليقاته على تلك النصوص هو من هذا الباب وذاك الجنس ، لذا تحتم علينا قراءة موضوعية رشيدة تحكم تلك العلاقة وتبين الخلل الحادث وحالة اللاوعي القائمة بينهما في ذواتهما ، لنصل إلى معين أدبي سلسبيل خال من كل كدر .
إن التولي عن سَنن القوم في نظم الكلام نظما تطرب به النفس وتهش له الأذن ..؟! فيسهل حمله واقتناؤه كوعاء أمين لحفظ اللغة ، وسقاء عذب لظامئي الحكمة ؟
ما هو إلا هُجنة مائعة الأصل .. خبيثة المُنتهى ..
لا تعبأ كثيرا بذبح الكلمات فداء لبقاء فكرتهم صحيحة سالمة.؟
فليس صدفة إذن ان يكون كل أو جل حاملي لواء هذا الكلام الهجين (المعدل وراثيا ) هم من جيل انتفاشة الهر ، ممن انبطحوا لكل (ماركة ) منفلتة من آصرة التذوق وسدة الوعي ..
وكونهم الفاصلة الخطأ بين الكلام الطبْعِي الذي يلامس السجايا ويهامس الحنايا ويداعب الروح ، وبين الكلام الدعيّ – وأحيانا الغبيّ – الذي غاية بهرجته أن يظهر كلبؤة دهنت وجهها بالأصباغ ومن كل لون لتتملق كل كسول طامح لِقِمّةٍ سامقةٍ دون أن يتحمل لأجل إحرازها عناء الصعود..
ثم خَلَف من بعدهم خلوف آبقة ، هتكت ستر اللغة ونالت من قواعدها ومرغت كرامتها فصرعتها، ولم تزل تصرع إلى اليوم في أيديهم ، وباتت مسخا شائها ، يُعبث به على قوارع الطرقات، ويُنادي به في كل المحافل من قِبل أشباه لم يحسنوا أن ينطقوا العربية ، فضلا عن تطريزها ثيابا صالحة للارتداء الجميل .. إنهم عملاء الغيبوبة وسماسرة الفساد ...
وككل ناعق له اتباع ... انبرت فئام من الجماهير الداجنة المؤدلجة يمدون هؤلاء في الغي مدا ، هذه الجماهير المائعة التي قصرت همَمُهُم عن التحليق في جو سماء الأجداد ، وضمرت حواسها عن تذوق تراثهم الثري .. فانسلخوا من جلدتهم واستخذوا متكفئين يروحون ويجيئون في زوايا الحظائرالمتسخة القادمة من صوب الشمال ..
ما أكثرهم بيننا ضجيجا وطنينا وأذى.. تَشكّل وعيُهم في غيبة من نور .. ونبتت عقولهم في ثرى الحداثة (الممحل) ،وباتوا ككتلة ثلج متميعة تذوب مع كل لفحة ساخنة تهب من أي جهة كانت ...
يملأون الأرض من كثرتهم .:. ثم لا يغنون في امر جلل
إن من يقلب البصر في نتاج هؤلاء ينقلب إليه بصره خاسئا وهو حسير..إذ لايكاد يرى فيه إلا القليل المقبول والكثير المرذول .. وكلما كان ترتيب النِتاج لاحقا كلما كان أسوأ قدرا وأحط منزلة من حيث الشكل والمضمون .. ولمن يريد أن يرصد هذه الظاهرة ويخرج بانطباعات وخصائص تجمعها سيجدها تأتلف في الكثير، وتختلف في أقل القليل
ينظمها خيط التمرد .. ويكسوها عري الانفلات .. وتحذو-اعتراضا- حذو ذي الثديّة
نهاية الأضداد عندهم دين تواصوا به ..
والثورة على الموروث عبادة ..
ووأدُ العفةِ مغاراتٌ يتحنثون في أخبِيَتِها.
فما أسرعهم استجابة لكل ناعق يركب مركب التعويم ،
ويستدبر بقوة جدار التراث المنيع ...
الغريب في الأمر أن هؤلاء الثائرين على الأدب (المفترض نسبته إليهم) والمنحازين إلى غير فئتهم ؛ هم العرب أو الذين يفترض أنهم كذلك ..
مروقهم من ثوابت اللغة وأصولها والأدب وقواعده مروق السهم من الرميّة ..
وانتماؤهم لموروثات غيرهم انتماءً فجًّا مهترءًا ..
واستدعاؤهم لقيم التراث انتقائي عنصري يكرس لنزعة التمرد
وهل أتاك حديث القافلة الغافلة ..؟! التى تستلم ركن العبث جازلة حافلة .. يتعاضدون إذا مس أحدهم قارعة من ذوى الولاء والانتماء .. فتهيج كلماتهم هياج المِرّة السوداء .. ويتذاءبون ويكرون كر رجل واحد .. يوزعون أدوارهم.. هذا يسب وذا يخب وذاك يحكم بالدهاء .. ويُفْرغون على هداة الطريق من سخائمهم وسماديرهم ما تطفح به مقاذع الألسنة
من جلدتي لكن أشــد علي من طــعن الرماح
ولا أدري لماذا لا يصح في أدمغة هؤلاء أن تكون إرادة التغيير مع معاني الترفع عن الأذى بعد استفراغ الوسع في نثر الفضيلة وبث الحكمة ، . أم هي شهوة العناد مع كل شيء لم يأت في كتب أنبياء البلاشفة ..أم هو اتباع سنن من قبلنا حذو القذة بالقذة كما جاء في الأثر الوضيء..
كان (لجيل الرواد) شيء من العقل يحفظون به ماء وجههم في خروجهم عن المألوف إذ أن هز الثابت المستقر يحتاج أول الأمر إلى هدوء وتحايل ونعومة وخلخلة .. كان بعضهم ينطلق في رص تراكيبه من قواعد تنتمي في بعض من جوانبها إلى ميراث الأمة ولا تتأبى كثيرا على الذائقة المطبوعة ... وأما الخلوف التى تسلمت بيدها المشؤومة الراية السوداء فقد جاءت على أحب ما أراده لهم كبيرهم الذي علمهم السحر ..فنَجُم نفاقهم الأدبي ، وانساحت طوامهم في كل رجا بغير وعي يهدي أو عقل يكف ..
يصرون إصرارا غريبا على التنكر للعقل وينطلقون في رص معانيهم المثقوبة من اللاوعي الغائم .. وعلى المتلقى أن يستخرج ما يعن له من معان إذا استطاع أن يكوّن جملة مفيدة في أي سطر ..ومهما حاول ، فإن الذي يفهمه زيد (إن فهم) هو غير الذي يفهمه عمرو من ذات الجملة .. فهم يعمدون إلى (عدم وضع اللفظ بإزاء المعنى ) حتى لا يُحاكمون إلى أصل ..كما أن في ذلك إغراء لهم بالسدور في الغي بغير اكتراث ودون الإلتفات إلى لزوم ما يلزم من ضوابط اصطلح عليها عقلاء الكلمة ..
لا يحده حدّ ولا يحجزه سدّ ولا يرتبط بآخِيَّة تنذره وتقيه ..
انظر الى بركهم الآسنة ..سترى القوم فيها صرعى .. وما بهم من صرع ولكنه التضاد الفطري الذي يطامن خوفهم باستدبارهم لكل معانى الحياة .. هذا من جهة
ومن جهة أخرى إن تعليقات المجاملة والنفاق الأدبي لا يصنع شاعرا ولا شاعرة ، وأن التحزب الشخصي لهذا أو ذاك أو ضد هذا أو ذاك هو نوع من الشللية التخريبية ، فليس كلام العلاقات العامة وإن كان يرضي غرور بعضنا يضيف شيئا للأدب ولا لغيره ، هو نوع من خداع الذات ، وأن كتابة تعليق فذ لفظا ومعنى لا يجعله اكثر من متسلق على الأدب والشعر ، فمن يكتب هذا يصنع لصا أدبيا ومن يقبل أن يكتب له يصنع من نفسه متسولا ، والنقد هو وقوف حقيقي مع الناص بحيث يدفعه خطوة للأعلى ، وأما المدح الفارغ فيبقيه في مكانه ويوهمه أنه أصبح في القمة ، زد على هذا الملصقات التى ما فتئ اربابها بعد أن يفقهوا أنهم جمعوا بين الجهل والغباء لأنه تعليق عدمي لا وزن له ، والعلة أنه لا يتجلى فيه وعي القارئ أو فهمه أو قبوله أو رده للنص .. والكثير من المجموعات الأدبية لا تلتفت لذوات النصوص بل للناص ، فإن كان ذا حظوة فيا سعد أبيه ، يوثقونه ويهنئونه ويفيضون عليه سيب أوسمتهم ، وإن لم يكن بهذا القدر من الحظوة فيا ويل أبيه مما سيلقى من تجاهل ، وإن كان النص حري بالمدارسة لفخامته لفظا ومعنى ، لأن الشخصنة أصبحت مرجعية ذات باع ضارب بجذوره في كثير من المحافل الأدبية .
فالنص أمانة .. كما التعليق أمانة وبينهما برزخ ويبغيان .
........................................................