الجمعة، 20 مايو 2022

قوافل البتراء الثقافية

قوافل البتراء الثقافية 

- أحيانا لا تكون الجوهرة الحضارية لشعب ما بآثارهم المادية والملموسة فحسب بل قد تكون بالعطايا المعنوية غير الملموسة التي خلفوها للحضارة الإنسانية فنحن لا نقيس رقي حضارة بما تركت من آثار ملموسة فقط بل هناك تأثيرات معنوية تنم عن سبق حضاري في ذلك الزمن ..

- يدرس الإرث المعماري للبتراء فقط ولكن هناك إرث معنوي اختفى تحت الرمال بنته حواف أقدام الجمال التي عبرت عباب الصحاري والأراضي لتنقل البخور واللبان والذهب والأقمشة ..

- نحن نعلم جيدا كيف بنت البتراء حضارتها بفضل الموسوعة التجارية التي خلقها الأنباط .. والتي كونت شبكة طرق واسعة وشاملة تنتقل عبرها مراكب الإبل والبعير الى أرجاء العالم القديم .. فقد وصلت تجارة الأنباط الى مصر وعقدوا مع الفراعنة الاتفاقيات التجارية ووصلت بضائعهم الى ميناء البندقية والى اثيوبيا الحبشية مرورا بالشام و بلاد الرافدين و للحجاز و اليمن وصولا الى الهند و السند .. لقد كانت البتراء امبراطورية تجارية ضخمه ..

- أولا القوافل التجارية والتي لا أراها تجارية فقط بل أراها قوافل ثقافية و فكرية فهي تنقل الفكر كما تنقل البخور وهذه القوافل تمر عبر مراكز حضارية كثيرة ومدن عديدة تقدر بالعشرات وفي كل مدينة على الطرق التجارية كان هناك اختلاط بالشعوب وتمازج ثقافي وأخذ وعطاء لتنتج أجيال جديدة متمسكة بالأصل ومحتكة ببذور لقاح الثقافات القادمة مع القوافل ..

- وأحيانا قد يحصل خلاف بين ملاك القافلة وبين سكان منطقة او محطة على الطريق لسبب ما يتعلق بدفع الرسوم الجمركية أو لأي سبب آخر وعندها نحتاج لفئة دبلوماسية لتحل المشكلة مما يطور الحس الدبلوماسي لأصحاب القافلة .. فملاك القوافل ليسوا تجار فقط بل هم فئة تمتلك كاريزما خاصة في الغالب ..

- هذه القافلة تحتاج لربان يعلم كيف يقرأ الطقس ويتعامل مع تقلبات الجو اليومية من برودة وحرارة وغضب الرياح بل يجب أن يكون لديه أدنى معرفة بعلم الفلك وقراءة النجوم واتجاهاتها فأصبحنا أمام عالم فلكي وليس مجرد ربان قافلة ..

- من ضرورة الإختلاط اليومي عبر التجارة بكل تلك الحضارت شرقا وغربا على طريق البخور و الحرير فلا بد أن الأنباط تعلموا العديد من اللغات وكانت قوافلهم تعج بالمترجمين و المثقفين و الأدباء الذين درسوا تلك الحضارات وتعلموا عاداتها وتقاليدها وفلسفاتها وفنونها ومعتقداتها ..

- هل لكم أن تتخيلوا كم يجابه مالكو القوافل أخطار محدقة بهم من قطاع الطرق والعصابات الخطيرة وكيف أصبح عندهم حدس خاص يستبق الأمور ويسير وفق المسلك الأقل خطرا ؟ هل تعلمون كم من الصعب أن يقضوا يومهم في العراء أحيانا وكم صعب أن يؤمنوا المخزون المائي ويبحثوا عن الآبار التي سبق وأن عينوها من قبل تماما كما كان يفعل الأنباط ..

- ماذا لو مرض شخص من القافلة أو مرض جمل يحمل متاع القافلة ؟ ماذا كانوا يفعلون ؟ كيف كانوا ينظموا شرب المياه حتى لا ينقطعوا ؟ وكيف يؤمنون الطعام ؟ 

- هل تتخيلوا عدد جنود النخبة المحترفين وعدد الأطباء و الفلكيين و المترجمين و الدبلوماسيين و الخبراء الإقتصاديين و المؤرخين و المدونيين والمستكشفين و السواح و المسافرين و المغامرين الذين كانوا يرافقون قوافل البتراء الضخمة حول مدن العالم القديم ! ..

- هل كان من يذهب مع القوافل هم التجار والعبيد والخدم الذين يعينهم الأغنياء ليتكفلوا بشؤون القوافل أم كان الأسياد يرافقون خدمهم وعملائهم ؟ لينتج بيئة تكافلية غير طبقية .. ففي العاصمة هناك طبقية مجتمعية ما تنفك أن تختقي في عرض الصحارى ..

- القافلة التجارية كانت عبارة عن مجتمع مصغر بل فاعلية حضارية محصورة ولكن لها تأثير كبير ينطوي على ما تجلبه معها وليس فقط ما تبيعه فهي تبيع المادة ولكنها تعود بثقافة وفكر ..

- جمال وإبل البتراء لا يزالوا يستقبلون السياح في القرن الحالي وكأنهم أبناء الجمال التي عبرت الصحاري من قبل ..

- للأسف نحن نركز على الآثار المادية وننسى الجهد والثمن الذي دفع من أجل تأمين مخزون اقتصادي ليبني هكذا حضارة عظيمة صمدت حتى اليوم .
ابو ياغي

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

مشاركة مميزة

يا فرنسا بقلم البشير سلطاني

يا فرنسا  لما كان العرب يحسبون موعد الكسوف وينتظرون موعده  كان سكان فرنسا يصرخون في شوارع باريس ويختبؤون وهم يقولون هناك غول يبتلع الشمس ...