قصة قصيرة
قلعة ذات أسوار عالية تكاد تغطى على ما خلفها من جبال ، أسوارها شديدة الارتفاع ، على كل نصف متر يقف جندى برأس عار ، تغطي صدره بالكامل صفائح معدنية سميكة ، بيده رمح يصل طوله لثلاثة أمتار مدبب من الأمام و موجه إلى الأسفل ، ترمى الشمس المتوهجة بخطوطها العريضة على واجهة القلعة ، و تحيط بها فيما يشبه أذرع الأخطبوط - كانت فيما مضى حصن حربى يحتمى الرماة بأسوارها العالية ، و يراقب القادة من أعلى سير المعركة ، و توجيه الجنود عبر الأنفاق و التجاويف الصخرية على جانبى القلعة لكن الحروب توقفت من زمن ، و فى الأسفل و على بعد أمتار قليلة تتناثر أعداد لا نهائية مثل رمال الصحراء من المبانى المصنوعة من الحجر القديم ، هنا و هناك بشكل عشوائي غير منتظم ، تتصاعد منها رائحة التراب و الدخان المحترق
من الناحية الخلفية لسطح القلعة ، و عبر مدخل قادم من الأسفل شديد الإتساع ، دوت أصوات متسارعة من أقدام الجند و صهيل مرتفع لعدد من الخيول و صوت جهورى يهتف : شيخ القبيلة ... شيخ القبيلة العظيم ... و بخطوات عسكرية منتظمة ، فوق تلك الأرضية المغطاة حديثا بالكامل بصخور مسطحة سوداء شديدة النعومة ، إصطف على شكل نصف دائرة مجموعة من الفرسان يبدو عليهم كبر السن و يحملون دروعا ضخمة و خناجر صغيرة ، إرتفع زئير مرعب لأربعة نمور ضخمة يحيط بكل واحد منهم أربعة رجال تبرز عضلاتهم السمينة و هم يجذبون السلاسل الحديدية التى ترك بعضها خطوط دموية فى أعناق تلك النمور ، و خلفهم مباشرة ، على عرش ذهبى اللون مرصع بجواهر حمراء و زرقاء تتلألا ، وضع الجنود أيديهم على أعينهم بخوف و حذر من إنعكاس أشعة الشمس الحارقة على أعينهم من تلك الجواهر الضخمة ، كان جالسا على العرش ، رأسه ضخمة مستطيلة صلعاء تماما ، ذقنه طويلة كثيفة تغطى نصف جسده الفارع ، عينيه جامدتين شديدتى الإتساع ، قابضا بيده اليسرى على سيف ذهبى المقبض ، له رأسين مدببتين من الأمام مثل لسان الثعبان ،، قفز فجأة على العرش فإنتفضت عضلات فخذيه الأمامية ، رفع صدره للخلف و فتح ذراعيه بأقصى إتساع ممكن ، فاحدثت الأسوار الذهبية الضخمة التى تحيط بمعصميه صوتا مثل عدة أجراس متوالية ، صرخ صرخة مدوية ، إهتزت أيدى الحراس تحته ، و نظر بعضهم إلى بعض بتوتر ، رفعوا رماحهم سريعا لأعلى بحركة غير منتظمة ، إصطدمت بعض الرماح ببعض ، و رددوا بأصوات متسارعة :
شيخ القبيلة العظيم ، شيخ القبيلة العظيم ، منقذ الأرض المقدسة ... منقذ الأرض المقدسة ، شيخ القبيلة العظيم ...
نظر لهم بفخر و إعتزاز و حرك رأسه و علامات الرضا على وجهه ، ضرب بقدمه اليسرى بقوة ، فاهتزت الجمائم المعلقة على سيقان عرشه الذهبى ، إنقض جالسا عليه ، و غرز سيفه بقوة مابين رجليه على سطح اللوح الصلب ، الذى يحمله عشرون جنديا فإهتزت سيقانهم و سرعان ما إلتحموا ببعضهم فى كتلة واحد حتى لا يضطرب العرش ، و ركعوا على سيقانهم المهتزة بحذر ، حتى سكن اللوح المعدنى على قوائمه الأربعة على سطح القلعة ، و هم يرددون فى ضعف
- شيخ القبيلة .. شيخ القبيلة العظيم
أشار لاحد الرجال كبير البطن ، يرتدي عمة كبيرة سوداء اللون ، إنحنى الرجل و فتح ذراعيه و هو يخفض رأسه ، ثم تراجع للخلف قائلا
- أوامرك يا شيخ القبيلة العظيم
فرك خاتمه الذهبى المستدير بأصبعه الكبير الخشن
و هو يقول بصوت أجش بطىء
هاااه ... ما أخبار موسم الصيد ؟
بالأمس يا سيدى ... أرسلت مائة جندى ... مائة جندى من الأفضل عندنا لمساعدة الصيادين .. فور ان وصل لى رسولكم الكريم ... أمرتهم ان يتركوا كل شىء و ياخذوا أسلحتهم ...
قاطعه ( شيخ القبيلة ) بيده اليمنى و أشار بها مثل السيف ، و نظر إلى شاب بثياب جلدية قصيرة كان متكئا على السور ، قفز تجاهه و إنحنى على الأرض حتى صار بحجم ركبة شيخ القبيلة و ظل يحدثه بصوت منخفض و الأخير يستمع باهتمام ، ثم أشار له بالانصراف ، و أشاح بيده للرجل البدين ذو العمة السوداء ، الذى تراجع للخلف و رقبته لا تتوقف عن الانحناء ، نظر إلى رجل طويل القامة نحيف أسمر ، أمعن النظر اليه ، إرتبك الرجل و نظر حوله ثم أشار لنفسه ، حدق شيخ القبيله له و قد تقوست حاجبيه الكثيفان حتى تلامسا فوق خطوط جبهته الغاضبة المتشابكة
تقدم الرجل بخطوات واسعة سريعة تناسب ساقيه الطويلتان ، و إنحنى على ركبتيه
- أوامرك يا شيخ القبيلة العظيم
- الخزانات الملكية ... لماذا لم تملأ حتى الأن
أليس هذا موسم جمع الأمطار ؟
إبتلع الرجل ريقه و قال و هو يرتجف
كما إعتدنا يا سيدى ... نخزن فى الأنفاق ما يكفى لزراعة الحبوب و الباقى نترك لعظا..
إرتفعت شهقات معظم الحاضرين ، عندما
وقف ( شيخ القبيلة ) فجأة بجسده الفارع الضخم ، و قد إحمر وجهه المستطيل الضخم و إهتزت لحيته الكثيفة
- حبوب ! ألا تعرف ما نمر به أيها الغبي
و نزع سيفه بقوة و لوح به فى الهواء محدثا صوتا يشبه الكرباج ، و أشار بأصبعه إلى أسفل قدميه و هو يصرخ :
إستقرار مملكتنا فوق كل الاشياء
لن يمس هذه البلاد احد طالما أنا هنا !
و أرجع ذراعه للخلف و ألقى السيف بقوة ليستقر فى صدر الرجل النحيف ، الذى كان أصلا راكعا على ركبتيه يهتز من الخوف ، نظر ( شيخ القبيلة ) إلى يساره ، تصاعدت همسات الرجال مفتولى العضلات ، سمع صوتا مثل فتح قفل معدنى قديم ، قفزت النمور تمزق جسد الرجل بسرعة و نهم شديد و قد تطايرت الدماء على وجوه الحاضرين ،، و بعد دقائق صرخ صرخ صوتا من بعيد
يا سيدى ، يا ( شيخ القبيلة ) ، نتعرض لهجوم من الأمام يا سيدى ، من أمام القلعة
بحث شيخ القبيلة عن سيفه لم يجده ، نزل بخطوات بطيئة من على عرشه
أين الجنود يا وزير ، لماذا لا أحد فى المؤخرة
يا سيدى .. لقد أمرتنى بإرسال الدعم .. إلى
... فرق الصيد
جذبه من عنقه و رفعه لأعلى و هو يهزه كاللعبة و يصرخ
انهم مائة ... أين الباقى ؟؟
حاول أن يتكلم بصعوبة و هو يكاد يختنق
يا سيدى .. أمرتهم ان يراقبوا كل من لم يحضر اليوم ...
ألقاه بعنف على الأرض فسمع صوت تحطم أخشاب لينة ، جز على أسنانه ، تصاعد صوت إحتكاكها ، صرخ و قد رفع قدميه ليسحق رأسه
و الفرقة .. الخاصة .. الملكية
أشار بأصبعه المرتجفة للحشد ، فتقدم عبرها عشرات من الرجال معتدلى القامة ، يلبسون ثياب قديمة ممزقة كانوا مندسين داخل الصفوف ، ارتفع صراخ النساء و اتسعت أعين الرجال فزعا ، إخترقت الأسهم المرتفعة رأس احد الجنود الواقفين على القلعة ، بدأ الجنود ينظروا يمينا و يسارا ، اما عامة الحاضرين فقد تجمدوا أماكنهم من الخوف ، إنطلق الجنود ذوى الدروع الكبيرة لحماية جنود القلعة الذين تساقطوا واحد تلو الآخر ، كانت حركتهم ثقيلة و عندما حاولوا إلقاء الرماح ، نزلت أسفل القلعة مباشرة ، فوق تلك البيوت الصخرية المتناثرة ، حاولوا توجيهها للأعلى و الأمام و لكنها كانت ثقيلة و موجهة للداخل ، تعالت الصرخات ، كانت النمور وحدها بلا قائد ، صار البعض يجرى هنا و هناك ، حاول بعض الشباب القفز من فوق سور القلعة ، فإخترقتهم الأسهم ، نظر حوله بغيظ شديد و مضى يجرى تجاه المدخل السفلى الواسع ، كانت الأرض شديدة النعومة و الإنحدار ، إنزلق على ركبتيه ، إنقلب على وجهه ، و قد تلطخ باللون الأحمر ، مسح عينه و قد غطته رائحة الدماء ، وصل إلى القاع إنحرف يسارا عبر طرق ملتوية لا يعلمها غيره ، أعدت كمخازن و سجون ، كان المكان شديد الظلام لا يرى موضع قدميه ، تفوح فى المكان رائحة خشب متعفن و ماء معطن ،
براميل من المياه كثيرة و موضوعة فوق بعضها بعناية عشرات الأعمدة ، كل عمود خمسة براميل ظل ينظر هنا و هناك ، ضرب بقبضته أحد البراميل السفلية ، إنفجرت المياه و غسلت ما عليه محدثة بركة تحت رجليه إنزلق فيها ، حاول القيام سَرِيعاً ، إشتبكت أساوره الذهبية بقطع طويلة حادة متهشمة من براميل المياه ، أمسك القطعة الخشبية بأسنانه لينزعها للخلف ، إتسعت عيناه فى فزع شديد ، و تراخت أسنانه الضخمة ، كانت النمور أمامه، يتعالى صوتها فى تحد و تتقدم بخطوات بطيئة ، و إختلط الماء بالدماء ...
( تمت )
مصطفى علاء بركات
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق