بِقَلَمِ: فؤاد زاديكِي
عِندَمَا تَضِيقُ بِنا سُبُلُ الحَياةِ، وَ نَتَخَبَّطُ فِي مَتَاهَاتِهَا، نَشْعُرُ بِحَاجَتِنَا الماسَّةِ وَ الشَّدِيدَةِ لِلْكِتَابَةِ، فَهِيَ تَنْفِيسٌ عَنْ المَشَاعِرِ وَ تعبيرٌ عنِ الأفْكَارِ، وَ هِيَ كذلكَ البُوصَلَةُ الَّتِي تَعْطِينَا الوَجْهَةَ الجَمِيلَةَ فِي هَذِهِ الحَياةِ. فِي أَوْقَاتِ الخَوْفِ وَ القَلَقِ، حِينَ يَعْجَزُ الإِنسَانُ عَنْ إِجَادَةِ الكَلِمَاتِ، الَّتِي تُرِيحُ قَلْبَهُ وَ تُوَضِّحُ تَوَجُّهَ فِكْرِهِ، تَظَلُّ الكِتَابَةُ هِيَ الوَسِيلَةُ الأَمْثَلُ لِلتَّعْبِيرِ عَنْ كُلِّ تِلْكَ الأَحَاسِيسِ، الَّتِي يَصْعُبُ وَصْفُهَا بِالكَلِمَاتِ المَنْطُوقَةِ.
تُعَتَبرُ الكِتَابَةُ لُغَةَ الرُّوحِ، وَ سَاحَةً تَعْبِيرِيَّةً خَالِيَةً مِنَ الحُدُودِ، تَتَنَقَّلُ فِيهَا الأَفْكَارُ وَ المَشَاعِرُ بِحُرِّيَّةٍ، لِتُصْبِحَ أَدَاةً فَعَّالَةً لِلتَّوَاصُلِ مَعَ الذَّاتِ أَوَّلًا ثُمَّ مَعَ الآخَرِينَ. فَهِيَ لَيْسَتْ مُجَرَّدَ مَجْمُوعَةٍ مِنَ الكَلِمَاتِ المُنَظَّمَةِ، بَلْ هِيَ رِحْلَةٌ فِكْرِيَّةٌ تُتِيحُ لَنَا تَرْتِيبَ أَفْكَارِنَا وَ تَنْظِيمَ مَشَاعِرِنَا. وَ عِنْدَمَا نَقُومُ بِكِتَابَةِ مَشَاعِرِنَا على الوَرَقِ، يُصْبِحُ مِنَ السَّهْلِ التَّعَامُلُ مَعَهَا وَ تَوْجِيهُهَا نَحْوَ بِنَاءِ فِكْرِيٍّ وَ رُوحِيٍّ.
الكِتَابَةُ لَهَا أَهَمِّيَّةٌ خَاصَّةٌ فِي حَيَاةِ المُثَقَّفِ، فَهِيَ بِمَثَابَةِ الضَّوْءِ، الَّذِي يُضِيءُ لَهُ الطَّرِيقَ فِي رِحْلَةِ البَحْثِ عَنْ الحَقِيقَةِ وَ المَعْرِفَةِ. إِنَّ المُثَقَّفَ، الَّذِي يَعْتَمِدُ عَلَى الكِتَابَةِ كَأَدَاةٍ لِتَطْوِيرِ نَفْسِهِ، يُسَاهِمُ فِي نَشْرِ الوَعْيِ وَ الرُّقِيِّ الفِكْرِيِّ فِي مُجْتَمَعِهِ. مِنْ خِلَالِ الكَلِمَاتِ المَكْتُوبَةِ، يُمْكِنُ لِلْمُثَقَّفِ نَقْلُ أَفْكَارِهِ العَمِيقَةِ، وَ تَحْلِيلَاتِهِ الدَّقِيقَةِ، وَ رُؤْيَتِهِ الخَاصَّةِ لِلعَالَمِ مِنْ حَوْلِهِ. الكِتَابَةُ تُمَكِّنُ المُثَقَّفَ مِنْ خَلْقِ حِوَارٍ دَاخِلِيٍّ مَعَ نَفْسِهِ، وَ بِالتَّالِي تَطْوِيرِ أَفْكَارِهِ وَ نَقْدِهَا، مِمَّا يُعَزِّزُ الوَعْيَ الذَّاتِيَّ وَ يُحَقِّقُ تَطَوُّرًا فِكْرِيًّا مُسْتَمِرًّا.
فِي عَالَمِ اليَوْمِ، الَّذِي يَشْهَدُ تَسَارُعًا فِي التَّطَوُّرِ التِّكْنُولُوجِيِّ وَ الثَّقَافِيِّ، تَصْبَحُ الكِتَابَةُ أَدَاةً أَسَاسِيَّةً فِي إِثْرَاءِ الحِوَارِ الفِكْرِيِّ بَيْنَ الأَفْرَادِ وَ المُجْتَمَعَاتِ. فَهِيَ لَيْسَتْ مُجَرَّدَ وَسِيلَةٍ لِلتَّعْبِيرِ عَنْ الأَفْكَارِ فَقَطْ، بَلْ هِيَ قُوَّةٌ مُؤَثِّرَةٌ قَادِرَةٌ عَلَى تَغْيِيرِ المَفَاهِيمِ وَ تَوْسِيعِ آفاقِ التَّفْكِيرِ.
يَسْتَطِيعُ المُثَقَّفُ مِنْ خِلَالِهَا التَّأْثِيرَ عَلَى الآخَرِينَ، وَ تَحْفِيزَهُمْ عَلَى التَّفْكِيرِ النَّقْدِيِّ، مِمَّا يُؤَدِّي إِلَى تَرْسِيخِ مَفَاهِيمَ جَدِيدَةٍ وَ تَطْوِيرِ التَّفْكِيرِ الجَمَاعِيِّ.
مِنْ خِلَالِ الكِتَابَةِ، يُمْكِنُ لِلْمُثَقَّفِ أَنْ يُسَاهِمَ فِي تَجْدِيدِ الفِكْرِ الإِنسَانِيِّ، فَالكَلِمَاتُ الَّتِي تُكْتَبُ اليَوْمَ قَدْ تَكُونُ هِيَ بَذُورَ التَّغْيِيرِ وَ النَّهْضَةِ الفِكْرِيَّةِ غَدًا. الكِتَابَةُ، إِذًا، لَيْسَتْ مُجَرَّدَ فِعْلٍ فَرْدِيٍّ، بَلْ هِيَ مَهمَّةٌ جَمَاعِيَّةٌ تَسَاهِمُ فِي الرُّقِيِّ بِالبَشَرِيَّةِ وَ تَطَوُّرِ المُجْتَمَعَاتِ.
فِي النِّهَايَةِ، لَا يُمْكِنُ لِأَيِّ مُجْتَمَعٍ أَنْ يُحَقِّقَ الرُّقِيَّ الفِكْرِيَّ دُونَ أَنْ يَكُونَ لِلْكِتَابَةِ دَوْرٌ أَسَاسِيٌّ فِيهِ. إِنَّ الكِتَابَةَ تُمَكِّنُ المُثَقَّفَ مِنَ التَّعْبِيرِ، وَ الفِكْرَ مِنَ التَّفَاعُلِ، وَ بِالتَّالِي تُسَاهِمُ فِي خَلْقِ مُجْتَمَعَاتٍ أَكْثَرَ وَعْيًا وَ تَحَضُّرًا. وَ فِي كُلِّ كَلِمَةٍ تُكْتَبُ، هُنَاكَ بَذْرَةٌ لِلْعِلْمِ وَ الفِكْرِ تنتظرُ أنْ تُزْرَعَ في أرضٍ خصبةٍ لتُنْتِجَ فِكْرًا نَاضِجًا وَ يُسَاهِمَ فِي تَغْيِيرِ وَ تَطْوِيرِ مُجْتَمَعَاتِنا. فَالكِتَابَةُ لَا تَقِفُ عِندَ حُدُودِ الزَّمَانِ وَ المَكَانِ، بَلْ هِيَ تَتَخَطَّى ذَٰلِكَ لِتَحْتَسِي مَعَانِيَ جَدِيدَةً وَ تُبْصِرَ عُوَامِلَ التَّغْيِيرِ. إِنَّها تَحْمِلُ قُوَّةً قَادِرَةً عَلَى تَحْفِيزِ العُقُولِ وَ النُّفُوسِ لِيَتَجَاوَزُوا التَّحَدِّيَاتِ وَ يَسْتَشْرِفُوا آفاقًا أَكْثَرَ بَذْرًا وَ إِشْعَاعًا.
فَإِذَا كَانَتِ الكتابةُ أداةً لِلنُّموِّ الفِكْرِيِّ وَ الرُّقِيِّ الثَّقَافِيِّ، فَإِنَّها أَيْضًا تَحْمِلُ فِي طَيَّاتِهَا مَسْؤُولِيَّةً كَبِيرَةً فِي تَحَمُّلِ تَحْوِيلِ أَفْكَارِ النَّاسِ إِلَى سُلُوكٍ إِيجَابِيٍّ وَ مُنَاصَرَةِ قِيَمِ العَدْلِ وَ المُساوَاةِ. إِنَّهَا تَكُونُ حِينَئِذٍ أداةَ تَغْيِيرٍ تَجْعَلُ مِنَ القَلْبِ وَ العَقْلِ مَرْجِعَيْنِ تَفَاعُلِيَّيْنِ لِبِناءِ مُجْتَمَعَاتٍ أَكْثَرَ تَفَاهُمًا وَ وَحْدَةً.
إِنَّ لِلكِتَابَةِ دَوْرًا عَمِيقًا فِي رَسْمِ مُسْتَقْبَلٍ أَفْضَلَ، وَ فِي سَابِقَاتٍ تَتَجَاوَزُ حُدُودَ الزَّمَانِ، فَفِي كُلِّ مَرَّةٍ تَحْمِلُ فِيهَا الكِتَابَةُ مَعَانِيَ جَدِيدَةً تَسْتَمِرُّ فِي زَرْعِ مَفَاهِيمَ تَصُبُّ فِي مَصْلَحَةِ النَّمَاءِ الإِنسَانِيِّ وَ التَّحَضُّرِ. تَكُونُ الكِتَابَةُ إِذَا فِي النِّهَايَةِ سَبِيلًا لِإِحْيَاءِ الوَعْيِ الفِكْرِيِّ وَ الْحَضَارِيِّ، وَ مِصْبَاحًا يُنِيرُ الطَّرِيقَ إِلَى غَدٍ أَجْمَلَ وَ أَفْضَلَ.
المانيا في ١٦ نوفمبر ٢٤
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق